لا يقاس انتشار صوت مفكر أو مخترع بمقدار ما أحدث من آراء ومخترعات فقط، بل بدرجة نبوغ الوسط الذي يعيش فيه والشعب الذي ينتمي إليه. فالأمم النبيلة تزيد أبناءها عظمة على عظمتهم، وتعمل على رفعتهم بقدر قد لا يصلون إليه وحدهم. ورب نظرة عادية لاقت مشجعين فنموها، وأخذوا بيدها حتى صعدت إلى عنان السماء؛ ورب فكرة ممتازة صادفت منبت سوء فماتت لساعتها. عرفت ذلك الشعوب الناهضة، فأشادت بذكر علمائها وفلاسفتها، وخدمت في الوقت نفسه العلم والثقافة الإنسانية. فهي تخلد ذكرى رجالها بمختلف الوسائل، وتعمل على نشر آثارهم ما وجدت إلى ذلك سبيلاً. فمن تماثيل مقامة في المدن والقرى، ومن جمعيات نشر وترجمة وتأليف قد أخذت على عاتقها إذاعة ما أنتج السلف من أفكار. فهل آن لنا أن نحتذي بهذه المثل الصالحة، وأن نعرف لتاريخنا حقه كي نعرف وننال منزلتنا تحت الشمس؟ متى يكتب عن (الفارابي) بقدر ما كتبوا عن (موسى بن ميمون + ١٢٠٤)؟ ومتى تعرف مؤلفات (ابن سينا) كما عرفت كتب (سان توما + ١٢٧٤)؟ ومتى يدرس (الغزالي + ١١١١) بقدر ما درس (ديكارت)؟
إن دعوتنا هذه موجهة إلى كل بلاد الشرق، وبوجه خاص إلى مصر التي تستطيع بحكم مركزها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي أن تخدم البحث والتأليف. فإلى أبناء مصر عامة، أفراداً خاصة، نتقدم بكلمتنا هذه آملين أن يعبروا تاريخ الفلسفة والبحث العقلي في الإسلام جانباً كبيراً من الأهمية. إن ميدان العمل فسيح، وإن سبله عديدة، ولسنا الآن بصدد أن نرسم خطة شاملة، أو أن نبين منهجاً مكتمل المواد، وإنما نريد أن يتولى الشرقيون بالدرس فلاسفة الإسلام على النحو الذي درس به الغربيون رجالهم. لنترجم لمفكرينا ترجمة مستفيضة، ولنصف وصفاً دقيقاً نواحي حياتهم المتعددة؛ لنبحث عن أصول نظرياتهم لدى حكماء الإغريق والهند والعراق، ولنقارن هذه النظريات بما جاء به اللاتينيون في القرون الوسطى، ولنبين وجوه النسبة بينهما وبين الأفكار الحديثة. إنا لا ننكر أن هذه الأبحاث مملوءة بالمصاعب، إذ تستلزم معرفة عدة لغات: قديمة وحديثة، شرقية وغربية، وتستدعي الاطلاع على مصادر لا حصر لها، ولكن إن لم يكن في هذه الدراسة إلا أنها عمل جديد من نوعه لكفي مرغباً في مزاولتها والإقبال عليها.
وأخيراً لنعمل على طبع ونشر مؤلفات الفلاسفة المسلمين، فإنّا لا نستطيع أن نفهمهم فهماً