وأنت تعلم أن هذه القصة قد قصها الله في القرآن في آيات كريمة هي أعذب وأسمى ما نعرف من آيات البيان العربي، وأنت تعلم إن من العسير أن تستغل مثل هذه القصة في أدبنا العربي الذي لم يتعود في العصر الحديث أن يستغل الكتب الدينية استغلالا فنيا كما تعود الأوربيون أن يلتمسوا في الكتب المقدسة موضوعات للقصص والشعر والتمثيل والنحت والنقش والتصوير الموسيقى. فإذا استطاع الأستاذ توفيق الحكيم أن يلتمس موضوع قصته في القرآن أو في قصة فصلها القرآن وأن ينشئ في هذا الموضوع أثراً فنياً بديعاً كان خليقاً أن يهنأ بشجاعته وبراعته معا.
فموضوع القصة إذن شرقي عرفته أحاديث المسيحيين وفصّله القرآن الكريم. ولم يعرفه الأوربيون إلا من هذه الطريق، ومؤلفنا إذن كغيره من المؤلفين الأوربيين الذين يلتمسون الموضوعات لقصصهم التمثيلية أحياناً في التوراة والإنجيل. ولكن مؤلفنا كغيره أيضاً من المؤلفين الأوربيين لم يحك حكاية ما عرفته أحاديث المسيحيين وما جاء في القرآن، وإنما بعث في أهل الكهف حياة أخرى فيها قوة وفيها خصب وفيها فلسفة تمكنها من الاتصال بالحياة الإنسانية العامة على اختلاف العصور والبيئات من أنحاء غير الناحية التي عنى بها القرآن وعنيت به الأحاديث المسيحية. وهو يدخل في هذه الحياة عناصر جديدة لم تدخلها القصة القديمة أهمها عنصران: عنصر الفلسفة، وعنصر الحب. فالفرق عظيم جداً بين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم القرآن وكما تصورهم أحاديث المسيحية الشرقية في سذاجة لا حد لها ووداعة لا حد لها وإيمان لا حد له ولا غبار عليه، وبين هؤلاء الأشخاص كما يصورهم الأستاذ توفيق الحكيم وقد تعقدت حياتهم فتعقدت عقولهم أيضاً. ففقد اثنان منهم هذه السذاجة المطلقة والوداعة المطلقة والإيمان المطلق ولم يحتفظ بهذه الخصال منهم الا شخص واحد، هو يمليخا الراعي، وبهذا النحو من التصوير الجديد لهؤلاء الأشخاص استطاع الكاتب أن يجعلهم أبطال قصة تمثيلية حديثة. ولو قد احتفظ الكاتب لهم بخصالهم الأولى لما استطاع أن يتجاوز بهم أبطال قصص الأسرار التي كانت تمثل في القرون الوسطى أمام الكنائس. فالكاتب مستكشف لقصته في ظاهر الأمر ولكنه مخترع لها في الحقيقة قد خلق أشخاصها خلقا جديدا وأدار بينهم من الحوار الفلسفي ما لم يكن يخطر لأحد منا على بال. وقد يكون من العسير أن تحقق الفلسفة التي أراد الكاتب أن ينتهي اليها،