ولكن هذا العسر نفسه مزية من مزايا الكاتب وفضيلة من فضائله. فهو ليس متعصبا ولا متأثراً بالهوى، وهو لا يريد أن يفرض عليك رأيا بعينه من مذاهب الفلسفة وإنما يريد أن يثير في نفسك التفكير في طائفة من الآراء والمذاهب. وهو دقيق متواضع لا يحب أن يعلن رأيه في صراحة مخافة أن يتابعه ضعاف الناس في غير بحث ولا تفكير. فهو يكتفي إذاً بأن ينبهك إلى طائفة من المسائل يحسن أن تفكر فيها وان تلتمس لها الحل لعلك تظفر به أو تنتهي إليه. ما الزمن؟ ما البعث؟ ما الصلة بين الإنسان والزمن؟ ما الصلة بين الحي والأحياء؟ بأي الملكتين يستطيع الناس أن يحيوا وان ينتجوا في الحياة؟ بهذه الملكة التي نسميها القلب والتي بها نحب ونبغض، أم بهذه الملكة التي يسميها العقل والتي بها نفكر ونحلل ونلائم بين الأشياء؟
كل هذه المسائل خليقة أن تفكر فيها وان تقف عندها فتطيل الوقوف، والكاتب يثيرها في نفسك ويصطنع لذلك فناً بديعاً نادرا فيه قوة مؤثرة وفيه رفق شديد. ليس هو معلما ولا أستاذاً ولكنه صديق يتحدث معك ويسايرك ويلفتك إلى ما قد تمر به دون أن تقف عنده أو تنظر إليه. لا أعرف كاتبا عربياً كان حسن السيرة مع قرائه كالأستاذ توفيق الحكيم. فقد أكبرهم حقا وأرشدهم حقا. ونفعهم في غير إذلال ولا تيه ولا كبرياء.
والحب هذا الحب الذي أدخله الكاتب في هذه القصة في غير تكلف ولا عناء وفي غير مصادمة للشعور الديني، والذي استطاع الكاتب أن يصوره صورتين قويتين تبلغ إحداهما من القوة حدا لا نكاد نجده إلا عند أشد الكتاب والشعراء الأوربيين عناية بالعشق وآماله ولذاته على اختلافها وتنوعها. وتبلغ إحداهما الأخرى بالحب قوة صوفية طاهرة بريئة من كل شائبة لا نكاد نجدها إلا عند كبار المتصوفة والقديسين.
أعترف أني معجب ببراعة الكاتب في غير تحفظ والى غير حد. والحياة الواقعة التي يحياها هؤلاء الناس العاديون الذين لا يتفكرون في أكثر من أعمالهم اليومية والذين لا يذوقون الفلسفة ولا يحسنون تصورها والحديث فيها كيف صورها الكاتب فأتقن تصويرها في شخص الملك ومن يحيط به من أهل القصر والمدينة. وهذا الإيمان المختلط الذي يمتاز به قوم يصطنعون العلم ولكنهم في حقيقة الأمر أنصاف متعلمين، فيهم سذاجة ولكنهم يريدون أن يكونوا أذكياء. وفيهم حب للحياة وحرص عليها ولكنهم يريدون أن يظهروا