كان خليقاً أن يرى، وأن الذين سمعوا ليتحدثون من أمره بالأعاجيب. قال له سيده حين أجمعت قريش أمرها: إني أرى شوقاً إلى الحرية وكلفك بها، وإسرافك في الجموح، وامتناعك عما لا ينبغي لمثلك أن يمتنع عنه من الطاعة والإذعان لمواليه، وإني أعرض عليك هذه الحرية التي تهواها، فان شئت فأد ثمنها، وما أظنك تفعل. قال العبد: فقد شئت أن أؤدي إليك ثمن هذه الحرية لو أني أستطيع أن أبلغه في جو السماء أو أقصى الأرض. قال جبير: فإنه أدنى إليك من ذلك، إنه في يثرب، فاذهب مع قريش في حربها هذه التي تتجهز لها، ثم عد إلي بمقتل حمزة وأنت بعد ذلك طليق.
قال العبد: أما إني ذاهب مع قريش فعائد إليك بمقتل صاحبك أو لاق من دون ذلك الموت فهو أهون على وآثر عندي من حياة الرقيق.
ولقد سمع الناس منه حديثه عن ذلك البلاء المنكر الذي أبلاه يوم أحد، وما أرى أنك تعرف كما أعرفه، فقد أخذ يرقب حمزة، وهو يقوم من المسلمين مقام الأسد يذود عن أشباله، يهز الجيش بسيفه هزاً، والناس يرونه من بعيد كأنه الجمل الأورق، فتمتلئ قلوبهم لمنظره رعباً، وينصرفون عن موقفه انصرافاً، وهو يتحداهم ويدعو فرسانهم ومغاويرهم. والعبد قائم قد استتر عنه بشجرة ينظر إليه ويرتقب غفلته، وحمزة لا يراه ولا يحس بمكانه. فلما أمكنته الفرصة هز حربته حتى رضي عنها، ولم يكن له بغير الحربة من السلاح علم، فلما تهيأت له الرمية رمي، وإذا الحربة تصيب حمزة في مقتل فيخر صريعاً، والعبد قائم مكانه لا يريم، يرقب أسد الله صريعاً بعد أن كان يرقبه جائلاً في الميدان؛ فلما استوثق من أن صريعه قد قضي عليه أقبل يسعى إليه، فانتزع حربته ثم عاد إلى المعسكر فأقام فيه. لم يصنع قبل مقتل حمزة شيئاً، وما يعنيه هذه الحرب بين قريش والأنصار، وإنما أقبل يشتري حريته بمقتل هذا الرجل العظيم، وقد ظفربما أراد، فانتظر قفول قريش إلى مكة، ولم يشهد ما كان تمثيل هند وصاحباتها بعم النبي، ولم يشهد ما كان من حزن النبي حين رأى عمه في منظر لم ير (صلى الله عليه وسلم) قط منظرا أوجع له وأثقل عليه منه. ولم يسمع العبد نذير النبي حين أقسم لأن أظفره الله على قريش ليمثلن منهم بسبعين مثله لم تعرفها العرب قط، ولم يعلم العبد أن النبي قد رد عن ذلك رداً، وأن الله قد أنزل في ذلك قرآنا، وإن النبي قد تلا قول الله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن