أما أنا فأرى في هذا ما يخالف رأيهم فيه كل المخالفة، أرى أن الصناعة البديعية كانت موجودة في الشعر قبل الإسلام، وأرى أن الشعراء قبله كانوا يقصدون إليها في شعرهم، ويتكلفونها فيه كما تكلفها أبو تمتم ومن أتى بعده، وإن أربوا في ذلك عليهم، وقصدوا إليه أكثر منهم، وأرى أن أبا تمام لم يفعل إلا أن جدد هذه السنة، ونهج في شعره على منوالها، بعد أن كاد الشعراء العباسيون قبله يسلكون بالشعر مسلكا جديدا يخالف هذا المسلك، ويتلائم مع العصر الذي ظهروا فيه كل الملاءمة
وكان أمرؤ القيس أول من عني بالصناعة البديعية في الشعر العربي، فتكلف منها ما لم يتكلفه أحد من قبل، وتزاحمت في شعره الكنايات والتشبيهات والاستعارات وما إليها، فكل هذا من الصناعة البديعية، وأسم البديع يشمل عند القدماء التشبيه مثلا، كما يشمل المقابلة والجناس ونحوهما
وقد ضاع أكثر شعر القدماء قبل امرؤ القيس، فلا نعرف مقدار ما كان فيه من تلك الصناعة؛ والذي نرجحه أنه كان لا يخلو منها، ولكن الذي كان يغلب عليه العناية بالمعاني الأصيلة، فكانت تظهر فيه على فطرتها في غير تصنع ولا تكلف ولا اجتهاد في تحسين، يأتيها بتصرف الخيال فيها بتشبيه أو كناية أو نحوهما
وغاية ما ذكره علماء الأدب في ذلك أن القدماء قبل امرئ القيس كانوا يقولون في المرأة الحسناء:(أسيلة الخد، تامة القامة أو طويلتها، جيداء أو طويلة العنق،) فقال أمرؤ القيس في هذا: أسيلة مجرى المع، بعيدة مهوى القرط، وكانوا يقولون في الفرس: يلحق الغزال، ويسبق الظليم. فقال أمرؤ القيس فيه:(بمنجرد قيد الأوابد هيكل)، ولا يكادون يجاوزون هذا في بيان الفرق بين حال الشعر العربي قبل امرئ القيس وحاله بعده
وقد شغف الشعراء بد امرئ القيس بصناعة البديع في شعرهم، وكانت حياتهم البدوية تضيق بهم، وتضيق بعقولهم وأفكارهم، فوقفوا بالشعر العربي عند معان محدودة، متأثرة في ضيقها وعدم اتساعها، وقلة أثر العقل المثقف فيها بضيق تلك الحياة، وقلة أثر الثقافة فيها، وأخذوا يدورون حول تلك المعاني كما تدور الرحى حول محورها، لا يتصرفون فيها إلا بتشبيه أو استعارة، أو مجاز أو كناية، أو نحو هذا من تلك الصناعة التي تنافسوا فيها،