وذلك أنه لم يجرب هذه المفاجأة بالحب، ولا وقع مرة في شراك غرام، وقد ربكته إيخو حين غمرته بكل حبها، فشرق به وغص، وقال: الفرار الفرار!
وتسلط الهم على قلبها فشقه، والشجن على جسمها الناحل فأضناه، وكانت صدمة هائلة صدعت جوانب نفسها، وزادتها نكالاً على نكال، ثم تتابعت الأيام وهي ما تزداد إلا سقاما. . .
واضمحلت. . . ثم اضمحلت. . . حتى غدت. . لا شيء!!
ولا شيء هذه ليست مبالغة فيما حل بها، إذ الصحيح إنها غدت لا شيء، إلا هذا الصدى يتردد في كل واد، ويذهب إثر كل نداء
وهي إلى اليوم تأوي إلى الغيران، وتتخلف إلى الشطئان، وتنحدر مع الريح على جنبات الجبال، تنعى همها، وتندب حظها في الناديين!
وشاءت المقادير أن تنتقم لإيخو المعذبة من هذا الشاب الجميل نركيسوس، الذي حطم قلبها الغض، وقضى على نفسها المحزونة. فبينما كان في طراد عظيم، في يوم قائظ، عرج على خميلة ناضرة ملتفة الأغصان، ليشرب من الغدير الصافي الذي يترقق من تحتها. . وما كاد ينحني إلى الماء حتى رأى صورته في صفحته الساكنة، فبهره حسنها، وأخذ يرمقها بقلب مشوق ونفس هائمة، وهو لا يعلم أن الحبيب الذي تامه إن هو إلا ظله، وعروس الماء التي تبلت فؤاده إن هي إلا خياله!!
عينان كبيرتان ذواتا أهاب زانهما وطف، وجبين واسع وضاء مشرق، وخدان أسيلان كخدود دربات الأولمب، وخمل حلو نابت فوق بشرة الوجه يزيده رونقا وجمالا، وثغر حبيب كأقحوانة أوشكت تتفتح، ترف حوله بسمة ساحرة من حين إلى حين، وذقن رقيق مستدق يرتفع على عنق يوناني رائع، ثم فتنة تغمر ذلك جميعا!!
خاطبه نركيسوس، ولكن. . . وا أسفاه! إنه لا يرد إلا تمتمة، ولا يجيب غلا كما تهمم الريح!
ومد يده. . فمد الخيال يده، واستطير صاحبنا من الفرح، ظانا أن حبيبته تواق إلى ما يريد!
واقترب بفمه، يريد قبلة، فاقترب الخيال بفمه كذلك. ولكن. . . يا لخيبة الأمل! ما كاد العاشق الولهان يمس الماء بشفتيه حتى ذهب حلمه أباديد، وتكسرت منى نفسه الحيرانة،