والجئ إلى أحوال دقته دق الرحى لما تدور عليه، ولم يعد له إلا رأي واحد في الدنيا: هو إنه مكذوب مزور على الدنيا.
قلت: يا بني. فإني أراك أديباً؛ فمن أبوك؟
قال: هو فلان التاجر، ظهر ظهور القمر ومحق محاقه، وهو اليوم في احلك الليالي واشدها انطماساً، جهده الفقر، ويا ليته كان الفقر وحده، بل انتهكته العلل، وليتها لم تكن إلا العلل مع الفقر، بل اخذ الموت امرأته فماتت هماً به وبي، ولم يكن له غيري وغيرها، وكان كل من ثلاثتنا يحيا للاثنين الآخرين، فهذا ما كان يجعل كلا منا لا يفرغ إلا امتلأ، ولما ذهبت الأم ذهبت الحقيقة التي كنا نقاتل الأيام عنها؛ وكانت هي وحدها ترينا الحياة بمعناها إن جاءتنا الحياة فارغة من المعنى، وكنا من أجلها نفهم الأيام على إنها مجاهدة البقاء؛ أما الآن فالحياة عندنا قتل الحياة. .!
قلت: يا بني، فإنك والله لحكيم، وإني لأنفس بك على الموت؛ فكيف ردتك حياة أمك عن قتل نفسك ولا تردك حياة أبيك؟
قال: لو بقى أبي حياً لبقيت، ولكن الدهر قد انتزع منه آخر ما كان يملك من أسباب القوة، حين اخذ القلب الشفيق الذي كان يجعله يرتعد إذا فكر في الموت؛ فهو الآن كالذي يحارب عن نفسه تلقاء عدو ليرحمه؛ أن عجز عن عدوه قتل نفسه ليستريح من تنكيل العدو به.
قال المسيب ابن رافع: وأدركت أن الفتى يريد من سؤال الشيخ تحلة يطمئن إليها أن يموت مسلماً إذا قتل نفسه كالمضطر أو المكره؛ فأشفقت أن اكسر نفسه إذا أنا حدثته أو أفتيته؛ وقلت: هذا مريض يحتاج العلاج لا الفتيا؛ وكان أمامنا (الشعبي) حكيما لحناً فطناً سقر بين أمير المؤمنين (عبد الملك) وعاهل الروم، فحسدنا العاهل أن يكون فينا مثله. وقلت: لعل الله يحدث به أمراً. فأخذت بيد الفتى إليه، ومشيت أكلمه وأرفه عن نفسه. وقلت له: أما تدري انك حين فرغت من سرور الحياة فرغت من غرورها أيضاً، وان الزاهد المنقطع في عرعرة الجبل ينظر من صومعته إلى الدنيا - ليس باحكم ولا أبصر ممن ينظر من آلامه إلى الدنيا؟
يا بني، أن الزاهد يحسب أن قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله. وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر