والإحسان وغيرها، إذا كانت فيما انقطع في صحراء أو على راس جبل؛ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وأيم الله أن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً، لهو الخالي من الفضائل جميعاً!
يا بني، إن من الناس من يختاره الله فيكونون قمح هذه الإنسانية: ينبتون ويحصدون ويطحنون ويعجنون ويخبزون، ليكونوا غذاء الإنسانية في بعض فضائلها. وما أدراك أنت وأباك إلا من المختارين كأن في أعراقكما دم نبي يقتل أو يطلب!
قال المسيب: وانتهينا إلى دار الشعبي، فطرقت الباب، وجاء الشيخ ففتح لنا، وسلمنا وسلم، ثم بدرت فقلت: يا أبا عمرو، إن أبا هذا كان من حاله كيت وكيت، فترادفت عليه المصائب وتوالت النكبات وتوارت الأسقام. . . ثم اقتصصت ما قال ابنه حرفاً حرفاً، ثم قلت: وانه الآن موشك أن يزهق نفسه وسيتبعه ابنه هذا؛ وقد (هداه الله إليك) فجاء يسألك: أيموت مسلماً من ألجئ واكره واضطر واستضاق واختل، فتحسى سماً فهلك، أو توجأ بجديدة فقضى، أو ذبح نفسه بنصل فخفت، أو حز في يده بسكين فما رقأ دمه حتى مات، أو اختنق في حبل ففاضت نفسه، أو تردى من شاهق فطاح. . .؟
وأدرك الشيخ معنى قولي:(هداه الله إليك)، ومعنى ما أكثرت من الألفاظ المترادفة على القتل وما استقصيت من وجوهه؛ فعلم إني لم أسأله الفتيا والنص، ولكني سألته الحكمة والسياسة؛ فقال: هذا والله رجل كريم، أخذته الأنفة وعزة النفس، وما أنا الساعة بمعزل عن همه، فنذهب نكلمه والله المستعان
ومشينا ثلاثتنا، فلما شارفنا الدار قال الفتى: إنه لا يفتح لي إذا رآكما، وربما استفز بنفسه فأزهقها، وساتسور الحائط وأتدلى ثم أفتح لكما فتدخلان وأنا عنده
ودخلنا، فإذا رجل كالمريض من غير مرض، خوار مسلوب القوة، انزعج قلبه إلى الموت وما به جرأة، والى الحياة وما به قوة؛ وصغر إليه نفسه إنها أصبحت في معاملة الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، وثابر عليه داء الحزن فأضناه وتركه روحا تتقعقع في جلدها، فهي تهم في لحظة أن تثب وتندلق
وسلم الشيخ وأقبل بوجهه على الرجل، ثم قال:(بسم الله الرحمن الرحيم، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)