فقطع عليه الرجل وقال كالمحنق: أيها الشيخ، قد صبرنا حتى جاء ما لا صبر عليه؛ وقد خلونا من معاني الكلام كله، فما نقدر عليها إلا لفظة واحدة نملك معناها، هي أن ننتهي!
ومد الشيخ عينه فرأى كوة مسدودة في الجدار، فقال لي: افتح هذه ودع الهواء يتكلم معنا كلامه. فقمت إليها فعالجتها حتى فتحتها، ونفذ منها روح الدنيا، وقال الشيخ للرجل: أصغ إلي، فإذا أنا فرغت من الكلام فشأنك بنفسك: أعلمت أن رجلا من المسلمين قد مرض، فأعضل مرضه فأثبته على سريره ثلاثين سنة لا يتحرك، وطوى فيه الرجل الذي كان حياً ونشر منه الرجل الذي سيكون ميتاً، فبقى لا حياً ولا ميتاً ثلاثين سنة. . . .؟
قال الرجل: وفي الدنيا من يعيش على هذه الحال ثلاثين سنة؟
قال الشيخ: صحح الكلام واسأل: أيصبر على هذه الحال ثلاثين سنة ولا يقول: (جاء ما لا صبر عليه)! وأي شيء لا صبر عليه عند الرجل المؤمن الذي يعلم أن البلاء مال غير أنه لا يوضع في الكيس بل في الجسم؟
أفتدري من كان الصابر ثلاثين سنةً على بلاء الحياة والموت مجتمعين في عظام ممددة على سريرها؟ إنه أمامنا (عمران ابن حصين الخزاعي) الذي أرسله عمر ابن الخطاب يفقه أهل البصرة، وتولى قضائها وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها خير لهم من عمران بن حصين. ولقد دخلت عليه أنا وأخوه (العلاء) فرأيناه مثبتاً على سرير الجريد كأنما شد بالحبال وما شد إلا بانتهاك عصبه وذوبان لحمه ووهن عظامه؛ فبكى أخوه، فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحال العظيمة! قال لا تبك؛ فإن أحبه إلى الله تعالى أحبه إلي. ثم قال: إن هذه الأرض تحمل الجبال فلا يشعر موضع منها بالجبل القائم عليه، إذ كان تماسك الأرض كلها قد جعل لكل موضع منها قوة الجميع، ولولا هذا لدك الجبل موضعه وغار به؛ وكذلك يحمل المؤمن مثل الجبال من البلاء على أعضائه لا ينكسر لها ولا يتهدم؛ إذ كانت قوة روحه قوةً في كل موضع، فالبلاء محمول على همة الروح لا على الجسم، وهذا معنى الخبر:(إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن روحه لتنزع من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل!)
ثم قال: ولكن ذاك هو المؤمن، فمن آمن بالله فكأنما قال له:(امتحني) وكيف تراك إذا كنت بطلاً من الأبطال مع قائد الجيش، أما تفرض عليك شجاعتك أن تقول للقائد: (امتحني وارم