عريضة ولا وقفة قوية ولا بساطة عظيمة ولا روعة عميقة، إنما هي وشي كثير وجمال كجمال الحلي المرصع يهز البصر ولا فكر خلفه. أما فن الزخرف العربي فهو في الحق أجمل وأعجب فن للزخرف خلده التاريخ. والزخرف عند العرب وليد ذلك الحلم باللذة والترف، كل شيء عند العرب زخرف. الأدب نثر وشعر لا يقوم على البناء، فلا ملاحم ولا قصص ولا تمثيل، إنما هو وشي مرصع جميل يلذ الحس، فسيفساء اللفظ والمعنى، و (آرابسك) العبارات والجمل. كل مقامة للحريري كأنها باب جامع المؤيد، تقطيع هندسي بديع. وتطعيم بالذهب والفضة لا يكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنح مأخوذاً بالبهرج الخلاب، كذلك الغناء العربي (آرابسك) صوتي، فلا مجموعة أصوات متسقة البناء كما في (الديتيرامب) أو (الأوركسترا) الإغريقية أو كما في (الكورس) الجنائزي المصري، ولا حتى مجرد صوت ينطلق حراً بسيطاً مستقيما. إنما هو صوت محمل بألوان المحسنات من تعاريج وانحناءات والتواءات وتقاسيم كأنها (ستالاكتيتات) غرناطية، لا يكاد يسمعه (القاضي الفاضل) حتى يستخفه الطرب ويضع نعله فوق رأسه؛ كان هذا في العهد الأول للموسيقى إذ كانت عند جميع الشعوب بسيطة عارية تخرج من القلب تعبيراً عما في القلب، أو رمزاً لفكرة من الأفكار. والموسيقى كالعمارة من الفنون الرمزية لا الشكلية، ولكن العرب لا يحبون الرموز، ولا طاقة لهم بالفن الرمزي، ولا يردون إلّا التعبير المباشر بغير رموز، وإلا الصلة المباشرة بالحس، فجعلوا من الموسيقى لذة للأذن لا أكثر ولا أقل، ولقد حاول الفارابي فيما أذكر التقريب بين الموسيقى العربية والموسيقى الإغريقية، وكان لا بد له من الإخفاق لأسباب قد أذكرها بعد، كذلك التصوير العربي على جماله ودقته ليس إلا مجرد تزيين وزخرف للكتب والمخطوطات لم يؤَدِ لغير تلك الغاية (المنياتور) الفارسي. قد يكون للدين دخل في تأخر النحت والتصوير عند العرب، غير أني أعتقد براءة الدين. أن العرب كانوا دائماً ضد الدين كلما وقف الدين دون رغبات طبائعهم، لقد حرم الدين الشراب، فأحلوا هم الشراب في قصور الخلفاء، وما وصفت الخمر ولا مجالس الخمر في أدب أمة بأحسن مما وصفت في الأدب العربي، لا شيء في الأرض ولا في السماء يستطيع أن يحول بينهم وبين اللذة، أما النحت أو التصوير الكبير فليس في طبيعتهم، لأن تلك فنون تتطلب فيمن يزاولها إحساساً عميقاً بالتناسق العام مبناه التأمل الطويل والوعي