كان قد وضع بالمصادفة شيئا من ملح النشادر في مرق الزلال وضع فيه خمائر لتتزايد وتتكاثر. (ما هذا؟ إن ملح النشادر يتناقص من المرق كلما تزايدت تلك الخمائر فيه! ما معنى هذا؟) وأخذ يفكر. (نعم. نعم. إن الخمائر تعيش على النشادر. إنها تعيش من غير زلال!). ورد الباب رداً عنيفاً فاهتز البناء، فلا بد له الآن من الوحدة وقد أراد العمل، كما كان لابد له من الناس إذا أراد المتعة بالإفاضة بنتائجه الباهرة إلى الجماهير المعجبة المتحمسة. وتناول قبابات نظيفة وصب فيها ماء مقطراً نقياً؛ ووزن في دقة مقداراً من السكر النقي، وزلقه إلى الماء، وأضاف إليه ملح النشادر، وكان نشادر الدردي. ثم غاص في القارورة التي تنغشت بالخمائر الصغيرة المتنبتة، وأخرج منها شيئا وضعه في القبابة مع السكر وملح النشادر. ثم وضع القبابة في محضن دافئ ثم تركها
وفي هذه الليلة أخذ يتقلب في مضجعه، يطلب النوم فلا يؤاتيه. وأسر رجياته ومخاوفه إلى مدام بستور، فهدأت من روعه، ولكنها لم تستطع نصحه. نبض قلبها بنبض قلبه، وضاق صدرها بمثل الذي ضاق به صدره، ولكنها لم تقدر على مطارحته العلم وتأميله في النجاح القريب. كانت خير عون لخير زوج
وما كاد الصباح يهم بالشروق حتى كان إلى جانب قارورته، تلك القارورة التي خبأت له من صروف المقادير ما خبأت. لم يدر كيف صعد السلم إليها. لم يدر ما الذي أكله في إفطاره. كل الذي أحس به أنه واقف إلى قارورته قد احتواها هذا المحضن الترب، حتى لكأنما طار في الهواء إلى حيث كانت. فتح القارورة واخذ منها قطرة عكرة، فوضعها بين قطعتين رقيقتين من الزجاج، وضعهما تحت عدسة مجهره، ثم نظر. وعندئذ علم إن الدنيا أسلمت إليه القياد
(هاهي! هاهي! جميلة في تنبتها، جليلة في صغرها وكثرتها. مئات الألوف في احتشاد بديع. وهاهي وحدات من أمات الخمائر الكبيرة التي بذرتها في القارورة بالأمس). وامتلأ صدره فهم بالخروج ليفيض على الخلائق بالذي ملأه، ولكنه رجع فكبح جماح شهوته، فلا بد له من علم شيء آخر خطيراً جداً. واخذ شيئا من سائل القارورة ووضعه في معوجة، وأخذ يقطره على النار ليرى هل أنتجت تلك الخلائق من السكر كحولاً. (ليبج مخطئ في زعمه، فالزلال لا ضرورة له، فتلك الخلائق النامية هي التي تخلق من السكر كحولاً).