للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العقل حارسة له، فإن للعقل أمراضا كثيرة يطيش فيها درجات من الطيش حتى يبلغ الجنون أحياناً؛ فكانت الإرادة عقلا للعقل؛ هل لينة إذا تصلب، وهي حركته إذا تبلد، وهي حلمه إذا طاش، وهي رضاه إذا سخط

الإرادة شيء بين الروح والعقل، فهي بين وجودين؛ ولهذا يكون بها الإنسان بين وجودين أيضا، فيستطيع إن يعيش هو في الدنيا كالمنفصل عنها، إذ يكون في وجوده الأقوى، وجود روحه، وأكبر همه نجاحه في هذا الوجود

وهذا النجاح لا يأتي من المال، ولا تحققه العافية، ولا تيسره الشهوات، ولا ينسيه التخيل الفاسد؛ ولا يكون من متاع الغرور، ولا مما عمره خمسون سنة أو مائة سنة، بل يأتي مما عمره الخلود، ومما هو باق أبدا في معانيه من الخير والحق والصلاح. فههنا يعين المرض بالصبر عليه مالا تعين الصحة، ويفيد الفقر بحقائقه ما لا تفيد الثروة؛ وهنا يكون العقل الإنساني عاملا اكثر مما هو متخيل، وقانعا اكثر مما هو طامع، وههنا لا موضع لغلبة الشهوة، ولا كبرياء النفس، ولا حب الذات؛ وهذه الثلاث هي جالبة الشقاء على الإنسان حتى في أحوال السعادة، وبدونها يكون الإنسان هانئا حتى في أحوال الشقاء

بالإرادة المؤمنة القوية ينصرف ذكاء المؤمن إلى حقائق العالم وصلاح النفس بها، وبغير هذه الإرادة ينصرف الذكاء إلى خيال الإنسان وفساد الإنسان

وإذا انصرف الذكاء إلى حقائق الدنيا كان العقل سهلا مرنا مطواعا، واستحال عليه أن يفهم فكرة قتل النفس أو يقرًّها؛ فإن هذه الفكرة الخبيثة لا تستطرق إلى العقل إلا إذا تحجر وانحصر في غرض وأحدٍ قد خاب وخابت فيه الإرادة ففرغت الدنيا عنده

ولو أن أمرا أتم عزمه على قتل نفسه ثم صابر الدنيا اياما، لانفسخ عزمه أو رك، إذ يلين العقل في هذه المدة نوعا ما، ويجعل الصبر بينه وبين المصيبة مسافة ما، فتتغير حالة النفس هونا ما. فالصبر كالتروح بالهواء على العقل الذي يكاد يختنق من احتباسه في معنى وأحد مقفل من جوانبه. ومثل العقل في هذه الحال مثل القائم في إعصار لفه بالتراب لفاً وسد عليه منافذ الهواء، وحبسه في هذا التراب الملتف حبس الحشرة في جوف القصبة؛ فهو على اليقين أنها حالة ساعة طارئة في الزمن لا حالة الزمن؛ وأن الهواء الذي جاء بهذا الهم هو الذي يذهب بهذا الهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>