وكما أن الأرض هي شيء غير هذا الإعصار الثائر منها، فالحياة كذلك هي أمر أخر غير شقائها
قال الإمام: وفي كتاب الله آيتان تدلان على أنه كتاب الدنيا كلها، إذ وضع لهذه الدنيا مثالين: أحدهما المثال الروحي للفرد الكامل، والأخر المثال الروحي للجماعة الكاملة
أما الآية الأولى فهي قوله تعالى:(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر.)
واما الثانية فهي قوله تعالى:(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.)
ففي رجاء الله واليوم الأخر يتسامى الإنسان فوق هذه الحياة الفانية، فتمر همومها حوله ولا تصدمه، إذ هي في الحقيقة تجري من تحته فكأن لا سلطان لها عليه؛ وهذه الهموم تجد في مثل هذه النفس قوى بالغة تصرفها كيف شاءت، فلا يجيء الهم قوة تسحق ضعفا، بل قوة تمتحن قوة أخرى أو تثيرها لتكون عملا ظاهرا يقلده الناس وينتفعون منه بالأسوة الحسنة، والأسوة وحدها هي علم الحياة
وقد ترى الفقير من الناس تحسبه مسكينا، وهو في حقيقته أستاذ من أكبر الأساتيذ يلقي على الناس دروس نفسه القوية
وفي رجاء الله واليوم الأخر يبطل أكبر أسباب الشرَّ في الناس، وهو نظر الإنسان لمن هو أحظى منه بفتنة الدنيا نظرا لا يبعث ألا الحقد والسخط، فينظر المؤمن حينئذ إلى ما في الناس من الخير والصلاح والإيمان والحق والفضيلة، وهذه بطبيعتها لا تبعث ألا السرور والغبطة، ومن جعلها في تفكيره ابطل اكثر الدنيا من تفكيره؛ وبها تسقط الفروق بين الناس عاليهم ونازلهم؛ كالرحل الفقير العالم إذا قدم على الغني العالم؛ جمع بينهما الاتفاق العقلي وسقط ما عداه
وفي رجاء الله واليوم الأخر يعيش الإنسان عمره الطويل أو القصير كأنه في يوم يصبح منه عاديا على الحشر والحساب؛ فهو متصل بالخلود غير معنى إلا بأسبابه؛ وبهذا تكون أمراضه وآلامه ومصائبه ليست مكاره من الدنيا، بل هي تلك المكاره التي حفت الجنة بها؛ ولا يضره الحرمان لأنه قريب الزوال، ولا يغره المتاع لأنه قريب الزوال أيضا
وفي رجاء الله واليوم الأخر يسود الإنسان على نفسه؛ ومن كان سيد نفسه كان سيد ما