للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان أحسن، فقال بشار: إنما بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: (إن ذاك النجاح) كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت (بَكِّرا فالنجاح) كان هذا من كلام المُوَلَّدين ولا يشبه ذلك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة، قال: فقام خلف فَقَبَّل بين عينيه. وهذه القصة تعطينا أن طريقة بشار الجديدة (طريقة المولدين) كانت قد تقررت في ذلك الوقت، وصارت واضحة النهج، معروفة الأسلوب واللفظ، وتعطينا أن بشاراً كان لا يعدل عنها إلا لدواع نادرة تجعله يتكلف طريقة الأقدمين، ليثبت لهم قدرته عليها، وأنه يهجرها عن عمد، ويتركها عن اعتقاد بعدم صلاحيتها، بعد انتقال الأمة من البداوة إلى الحضارة، ومن خشونة العيش إلى لينه، ومن ظلمة الأمية إلى نور العلم، ولكنه كما قلنا لم يصل في تلك الطريقة إلى غايتها، ولم يبلغ بها إلى الدرجة التي وصلت إليها في شعر أبي نواس وأبي العتاهية، من تلك السهولة الممتنعة التي تقرب الشعر إلى الناس وتبعده عنهم، وتعتمد في ذلك على القدرة الشعرية الحق، لا على التشدق الذي يخفي وراءه من الضعف الشعري ما يخفي، ويوهم الناس أنهم لا يقدرون عليه، وهم لا يعجزهم منه إلا هذا التشدق وحده

وأما طريقة الشعر فلم يحدث فيها بشار حدثاً، بل مضى على ابتداء القصيد بالنسيب كما مضى عليه من قبله؛ وقد ثار أبو نواس على هذه الطريقة، وأخذ على الشعراء ابتداءهم القصيد بذكر الأطلال في عصر الحضارة والعيش المستقر، وبذكر هندا ودعدا بعد أن امتلأت القصور في عصرهم بمن لا يصح أن يجري معه ذكر لهند ودعد؛ وقد ذكروا لأبي نواس في تنديده بذلك قوله:

صفةُ الطلول بلاغة القِدْمِ ... فاجعل صفاتك لابنة الكرْمِ

وقوله:

لا تَبكِ ليلى ولا تَطرَبْ إلى هِندِ ... واشرب على الوردْ من حمراء كالوَرْدِ

وقوله:

سقياً لغير العلياء فالسّنَدِ ... وغير أطلال مَيّ بالجرَد

وقوله:

يا رَبْعُ شُغلَكَ إني عنك في شُغل ... لا ناقتي فيك لو تدري ولا جملي

وقوله:

<<  <  ج:
ص:  >  >>