وكنت لهم من هؤلاء وهؤلا ... مِجَنَّا على أني أُذَمُّ وأُقصب
وأُرْمَى وأرْمِي بالعداوة أهلها ... وإني لأْوذَى فيهمُ وأُؤنب
فقال له الفرزدق: يا ابن أخي أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى وأشعر من بقى؛ وفي رواية أخرى أنه قال له: قد طربت إلى شئ ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب ولا طرب من كان قبلنا إلا ما تركت أنت الطرب إليه
فهذا هو التجديد الصحيح في مطلع القصيد، لا ابتداؤه بوصف الخمر بدل النسيب كما أراد ذلك أبو نواس، فكل منهما غرض مستقل من أغراض الشعر، والتمهيد به لغيره من الأغراض الشعرية تصنع قبيح، وتكلف مسترذل.
وقد سلم أبو العتاهية من هذا العبث في مطلع قصيده بعد أن أقلع فيما يأتي عن سنة شعراء عصره، وأخذ نفسه بالجد في الشعر وترك العبث واللهو فيه.
وأما أغراض الشعر فإن أبا العتاهية هو حامل راية التجديد فيها، وصاحب القدح المعلى في تذليل ذلك الشعر العربي الجامح للآداب الإسلامية العالية، والأخلاق الكريمة السامية، والمواعظ الحسنة النافعة، وما إلى ذلك مما يدخل في نشر الثقافة الإسلامية، واستخدام الشعر في الدعاية إليها، وأخذ الناس جميعاً بها، حتى تعلو كلمة الشعر عليهم أجمعين، ويكون الشعراء الحكام على الملوك والعظماء، ولا يكون الملوك والعظماء الحكام على الشعراء، ولقد نجح أبو العتاهية في ذلك أيما نجاح، وذاع شعره في الشرق والغرب، وطار به صيته عند الأدباء والعلماء والعظماء في سائر الأمم واللغات، وأدى بهذا كله رسالة الشعر في عصره أحسن تأدية. ولم يكن لبشار ولا لأبي نواس في ذلك أثر يصح أن نذكره، اللهم إلا بعض أبيات نادرة تأتي في أثناء القصيد على عادة غيرهما من الشعراء، وإلا قصيدة بشار في الدعاية لابراهيم بن عبد الله بن حسن حينما خرج على المنصور، وكان بشار من أشياعه، وهي قصيدة جليلة نعى فيه على المنصور قيام حكمه على الاستبداد بالرعية، ونصح إبراهيم أن يقيم حكمه على الشورى بأبياته المشهورة فيها:
أبا جعفر ما طول عيش بدائم ... ولا سالم عما قليل بسالم
على الملك الجبار يقتحم الردى ... ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتل متوج ... عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم