الضعيفتين ونظرتُ إلى مَجرى السكِّين من حلقه وإلى مَحزِّها في رقبته اللينة؛ ورايتُه كأنما تَفرَّقَ بصرُه من الفزَع على كل جهة، ورأيته يتضرّع لي بعينيه الباكيتين ألا أذبحَه، ورأيته يتوسل بيديه الصغيرتين كأنه عرف أنه منى أمام قاتله؛ ثم خُيِّل إلى أنه يتلوّى وينتفضُ ويصرخ من ألم الذبح تحت يد أبيه
يا ويلتاه! لقد أخذني ما كان يأخذني لو تهدّمت السماء على الأرض، وحسبت الكونَ كلَّه قد انفجر صُراخاً من أجل الطفل الضعيف الذي ليس له إلا ربُّه أمام القاتل
فَهرُولْت مسرعاً وتركت الدارَ والمرأةَ والصبيْ وأنا أقول: يا أرحمَ الراحمين. يا من خلق الطفل عالَمُهُ أمُّه وأبوه وحدهما وباقي العالم هباءٌ عنده. يا من دبّر الرضيعَ فوهبه مُلكاً ومملكة وغنى وسروراً وفرحاً، كلًّ ذلك في ثَدْي أمِّه وصدرِها لا غير. يا إلهي: أنسني مثلَ هذا النسيان، وارزقني مثل هذا الرزق، واكفلني بمثل هذا التدبير فإني منقطعُ إلا من رحمتك انقطاعَ الرضيع إلا من أمِّه
قال الرجل: ولقد كنتُ مغروراً كالجيفة الراكدة تحسب أنها هي تفور حين فارت حشراتُها. ولقد كنت أحقرَ من الذباب الذي لا يجد حقائقه ولا يلتمسها إلا في أقذر القذر
وما كدت أمضي كما تسوقني رجلاي حتى سمعت صوتاً ندِياً مطلولاً يُرجِّع ترجيع الورقاءِ في تحنانها وهو يُرتل هذه الآيةِ:
(واصبرْ نفسك مع الذيِن يدْعون ربّهم بالغداةِ والعشيِّ يريدون وجهه ولا تَعْدُ عيناكَ عنهم تريد زينةَ الحياة الدنيا، ولا تُطعْ من أغفلنا قلبَه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فُرُطا.)
قال: فوقفت أسمع وماذا كنت أسمع؟ هذه شُعَلٌ لا كلمات، أحرقت كلّ ما كان حولي ولستْ مصباحَ روحي المنطفئ فإذا هو يتوهج، وإذا الدنيا كلها تتوهج في نوره، وارتفعتْ نفسي عن الجدبْ الذي كنت فيه وكأنما لفّتني سحابةٌ من السحب ففي روحي نسيم الماء البارد ورائحةُ الماء العذب
لعن الله هذا الاضطرابَ الذي يُبتلى الخائفُ به. إننا نحسبه اضطراباً وما هو إلا اختلاطُ الحقائق على النفس وذّهابُ بعضها في بعض، وتَضُّبُ الشرّ في الخير والخيرِ في الشر حتى لا يَبينَ جنسٌ من جنس، ولا يُعرف حَدُّ من حد، ولا تمتاز حقيقة من حقيقة. وبهذا يكون الزمنُ على المبتَلى كالماء الذي جَمدَ لا يتحركُ ولا يَتَسايَرُ، فيلوحُ الشرُّ وكأنه دائماً