تركن إلى حكم من الأحكام بالغا ما بلغ من القوة والذيوع إلا إذا أيداه الدليل القاطع) وفي الصفحة نفسها (كذلك لا ترضى الفلسفة أن تسلم بصحة مبدأ أو فكرة إلا إذا ثبتث لديها ثبوتاً لا يدع مجالا للريب والشك. فهاتان صفتان تستطيع بهما أن تفرق بين العلم والفلسفة:) وهذا كلام يفهم القارئ أن الفلسفة قائمة على اليقينيات وأن العلوم قائمة على الظمنيات، والمعروف غير هذا. فقد كانت الفلسفة نظراً عاماً في الكون ظاهره وباطنه، ثم تحددت مواضع النظر وأدرك الباحثون قوانين في العالم نشأت بها العلوم المختلفة يؤيدها التجربة والاستقراء والبرهان العقلي. وكلما خرجت طائفة من ظواهر الكون من الحدس إلى اليقين خرجت من حضانة الفلسفة حتى لم يبقى للفلسفة في العصر الحاضر إلا موضوعات لم تحط بها التجارب ولم تضبطها البراهين وهي ما وراء الطبيعة، والنفس، والأخلاق، والنطق، والجمال الخ
نحن نعترف بأن العلم لا يبحث في حقيقة موضوعه ولكن في خصائصه. فهو لا يبالي بحقيقة الزمان والمكان والمادة، بل يبحث في خصائصها ومظاهرها، ولكن هذا لا يستلزم أن تكون العلوم الظنية والفلسفة يقينية، بل مجال الظن والغرض أوسع في الفلسفة منه في العلم. وقصارى القول أنه ينبغي التفريق بين غاية العلم والفلسفة ومباحثهما، فغاية العلم بحث ظواهر ولكن مباحثاته قائمة على الحس والتجربة، وغاية الفلسفة النفاذ إلى حقائق الأشياء ولكن مباحثهما مليئة بالحدس والظن
٢ - أين بدأت الفلسفة؟
قال المصنفان تحت هذا العنوان:(لعلك الآن في ضوء هذا التحليل الذي تقدمنا به إليك تدرك معنا أن هذا الضرب من التفكير الذي يحاول أن يوحد بين ظواهر الكون المتنافرة والذي يرفض التسليم الساذج رفضاً تاماً، والذي يسمو بالعقل فوق المستوى المادي من حيث أسلوب التفكير وصور الفكر - نقول لعلك تذهب إلى ما ذهبنا إليه من أن هذا التفكير الفلسفي الصحيح لم ينشأ ولم يتم إلا عند شعب واحد دون الشعوب القديمة جميعاً هم اليونان القدماء:)
وقالا في الصفحة ١٦:(لم تستمد الفلسفة اليونانية أصولها من تلك الأمم القديمة ولكن خلقها اليونان خلقاً وأنشئوها إنشاء. فهي وليدتهم وربيتهم ليس في ذلك ريب ولا شك:) فأما ادعاء