للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بصاحبها، وانقلب الزمن كالعدو المغير جاء ليصطلم ويخرب ويفسد، فأثر في اقبح آثاره، فبعت ما بقي لي وتحملت عن الكوفة إلى البصرة، وقلت: إن لم تتغير حالي تغيرت نفسي، ولا أكون في البصرة قد انتهيت إلى الفقر، بل أكون قد بدأت من الفقر كما يبدأ غيري، وأدع الماضي في مكانه وامضي إلى ما يستقبلني.

فالتمست رفقة فالتأمنا عشرين رجلا، فلما كنا في الطريق، سلبنا اللصوص وحازوا القافلة وما تحويه، ونجوت أنا راكبا فرسي وعمري، وأدركت حينئذ أن الحياة وحدها ملك عظيم، وأنها هي الأداة الإلهية، والباقي كله هو من أنفسنا لأنفسنا والأمر فيه هين والخطب يسير.

وقلت: لو أن اللصوص قد مروا بنا كما يمر الناس بالناس لما نكبونا، ولكنهم عرضوا لنا عروض اللص للمال والمتاع لا للناس فوضعوا فينا الأيدي الناهبة، ومن هذا أدركت أن ليس الشر إلا حالة يتلبس بها من يستطيع أن يتخلص منها. فإذا كان ذلك فاصل السعادة في الإنسان ألا يعبأ بهذه الحالات متى عرضت له؛ وهو لا يستطيع ذلك إلا إذا تمثل الشر كما يراه واقعا في غيره؛ فالمرأة العفيفة إذا عرضت لها حالة من الفجور ونظرت إلى نفسها وحظ نفسها فقد تعمى وتزل، ولكنها إذا نظرت إلى ذلك في غيرها وإلى أثره على الفاجرة كانت كأنما زادت على نفسها نفسا أخرى تريها الأشياء مجردة كما هي في حقائقها.

قال: ومضيت على وجهي تتقاذفني البقاع والأمكنة، وأنا أعاني الأرض والسماء، وأخشى الليل والنهار، وأكابد الألم والجوع، حتى دخلت البصرة دخول البعير الرازح قطع الصحراء تأكل منه ولا يأكل منها، فأنضاه السفر وحسرة الكلال ونحته الثقل الذي يحمله، فجاء بينية غير التي كان قد خرج بها. وكانت أيامي هذه عمرا كاملا من الشقاء جعلتني أوقن أن هؤلاء الناس في الحياة إن هم إلا كالدواب تحت أحمالها، لا تختار الدابة ما تحمل ولا من تحمل، ولا يترك لها مع هذا أن تختار الطريق ولا مدة السير وليس للدابة إلا شيئان: صبرها وقوتها؛ إن فقدتهما هلكت، وإن وهنا فيها كان ضعفها بحسب ذلك

إن هناك أوقاتا من الشقاء والبؤس تقذف بالإنسان وراء إنسانيته وإنسانية البشر جميعا لا تبالي كيف وقع وفي أي واد هلك، فلا ينفع الإنسان حينئذ إلا أن يعتصم بأخلاق الحيوان، في مثل رضاه الذي هو احكم الحكمة في تلك الحال، وصبره الذي هو أقوى القوة، وقناعته التي هي أغنى الغنى، وجهله الذي هو اعلم العلم، وتوكله الذي هو إيمان فطرته بفطرته.

<<  <  ج:
ص:  >  >>