في الخلاء، منجاة من الوباء، ففروا تاركين وراءهم حطام الدنيا ومتاع الحياة، وما يغني متاع الحياة وحطام الدنيا إذا فر الأخ من أخيه، وفصلت الزوجة عن زوجها، وأفزع الآباء والأمهات عن فلذات الأكباد؟ هذه جثث الموتى متناثرة في الطرق رأيتها بعيني ورأيت الكلاب تدس أنوفها في الأجساد فيسري إليها الداء، فتخر صريعة على الأرض وتقعد مكانها بين ضحايا الوباء.
في خمسة اشهر من العام بين مارس ويوليو فتك الطاعون بمائة ألف من الأنفس، وما كنا نحسب أن في فلورنسا هذا العدد من الناس.
ولكن! مالي اردد ذكرى هذه الفاجعة، ولقد برمت بها وبذكراها! أليس الخير كل الخير في أن يجتنب المرء ذكر ما تسوئه ذكراه، وينسى ما يجد السبيل إلى أن ينساه؟
فلأذكر إذا أنه عندما أصبحت فلورنسا قفرا من الأهل والسكان جمعت البأساء بين فتيات سبع لهن من الجمال حظ وافر، وعليهن من الثياب سواد، واجتمعن يوم الثلاثاء في كنيسة سنت ماري، ولم تحو الكنيسة غيرهن من شهود الصلاة. وكانت تربطهن فوق رابطة البأساء صلة القرابة الوشيجة، وصلة أوثق من هذه وتلك هي صلة الصداقة والوفاء. شهدن الصلاة ثم انتبذن ناحية من الكنيسة خلصن فيها نجيا يتدبرن فيما يجمل بهن أن يتخذن من سبيل في الحياة وقد تخلين عن متاع الدنيا وتخلى عنهن الأهل والخلان. قالت كبراهن - يامبينيا:(الرأي عندي أن نرحل عن فلورنسا فننجو بأنفسنا من خطرها المحدق وشرها المحيق، وأي خطر اشد من الطاعون، وأي شر أسوء من أولئك المارقين يجوسون الطرق ويقتحمون الدور؟ هيا إلى الريف نجد فيه مراغماً، وهواء طلقا، وحياة وادعة، في كنف التلال الخضراء والمزارع تموج فيها الحنطة كموج البحر، ولا يرى البصر إلا نعيماً، مالنا ولهذه المدينة الخاوية على عروشها تبعث في النفس أمض الذكريات وأقساها؟).
- قالت فلومينا (وكيف السبيل إلى هذه الرحلة وليس لنا ساعد من الرجال؟).
- قالت أليزا (وأين الرجال يا أختاه، وكل أترابنا منهم قد تبدد شملهم، وانصدع جمعهم، فمنهم من فتك به الطاعون، ومنهم من ضرب في الأرض لا يعرف له مستقر فهم لا يرجعون).
وفيما هن يقلبن الرأي على وجوهه إذ وفد عليهن ثلاثة فرسان: فتيان في ميعة الصبى