وفيم هذا الخوف؟ ولماذا تميد نفسه لذكريات الماضي، وليس في هذه الذكريات ما تنكره السلائق والشيم؟ نعم، لقد احب في مواضي أيامه امرأة اسمها (بليتزا)، وأحب القياصرة من قبل نساءً من الشعب، ثم ماتوا، ولم يقرض نفوسهم المخاوف، وحيث قد احب هراقليوس فتاة من بنات الشعب فأولى له أن يطمئن إلى هذا الحب ثم أولى له أن يطمئن إلى غده، لان (بليتزا) التي احب صارت في الغابرين
ولما رفع رأسه شامخاً مستكبراً، وأنحى ناحية الباب يريد الإفلات من هذه الهوة الراعبة، لحق به الأشباح في صف واحد، فما حفل بهذا المشهد، وخيل إليه أن اهتزاز الصورة ما كان غير وليد تصوراته وسبحه، ولكن المرأة العمياء أدركته عند الباب وهتفت باسمه (هراقليوس!)
وفي هذه الفينة لم تفته الحقيقة الراعبة فعضض يده من جزع وإشفاق وسرى جرس العمياء إلى نفسه كالصليل، فتلفت فإذا التي تصورها خيالاً تقبض على يده فتناديه: هراقليوس! هراقليوس! انظر إلى وجهي ملياً وقل لي ماذا رأيت عليه؟
وأخذت (بليتزا) تجذبه إلى ناحيتها فشعر بحرارة أنفاسها ينظر إليها مبهوتاً حائراً ثم أطبق عينيه كأنما هو يريد ألا يرى إلى صورتها الشجية، وظلت (بليتزا) تستجيشه وتحركه وتذكر له الماضي حتى أفاق وفتح عينيه على الصورة الجاهمة سائحاً:
- بليتزا! بليتزا! قالت:
- نعم بليتزا، تلك الفتاة التي جئت بها من حجرتها في (نيكوميديا) إلى حجرتك في القصر ورحت بها إلى سريرك، فتوسلت إليك ألا تعبث بعفافها عن كثب من صور الصالحين والقديسين والرسل! نعم أنا بليتزا، ولست خيالاً كما توهمت، فإذا كنت لا تزال في ريب من أمري، فهاك يدي فجسها، ودونك صدري فاستمع إلى وجيبه، وقل بعد ذلك إذا كنت لا تزال تحلم أم انك تؤمن بهذا الذي ترى!
لقد كان البرد الشديد، وهذا الخوف الذي تولاه، وذكريات الماضي التي تجددت في نفسه، وانبعاث بليتزا في المكان النابي المليء بأوجاع النصرانية وآلامها، وهذه الأشباح التي رافقته في مطافه، كان هذا كله مثار أحزان جديدة في نفسه، فما عاد يستطيع أن يجنب عينيه النظر إلى رفاق بليتزا، فرأى إلى (نفتالي) ثم إلى (بنيامينا) ثم إلى (مارية)! وفتح