أمراض الديدان إلى أحزان الإنسان، ونفخ في البوق نفخة داوية يبشر المرضى البائسين بقرب بلوغ دار الأمان، قال:(إن في مقدور الإنسان أن يمسح عن وجه الأرض كل الأدواء التي يسببها تطفل الأحياء عليه، هذا على فرض أن نظرية باطلة، وأنا واثق من بطلانها)
وجاء عام ١٨٧٠ بحصار باريس في ذلك الشتاء القارس، فخرج عنها تاركاً أعماله، تاركاً معامله، وذهب إلى قريته القديمة في جبال (الجورا). ثم ذهب إلى ميدان القتال يبحث بين الأشلاء عن جثة ابنه الصريع، وقد كان جاويشا في الجيش الفرنسي. وعلى هذه الأرض، وبين هذه الدماء، نشأ فيه كره للألمان ولكل شيء ألماني اخذ ينمو فيه ثم ينمو ويفيض حتى تشرب به كل عصب من أعصابه، وبقي معه بقية حياته. واتخذ من اجل ذلك الوطنية صناعة. واخذ يصرخ في الناس:(إن كل مؤلف من مؤلفاتي سيطالعكم عنوانه بكراهة بروسيا، وينشكم الثأر والانتقام.) وبسخافة فاخرة بدأ بحثه الأول فجعله للثأر والانتقام. واعترف أن بيرة فرنسا دون بيرة الألمان، فنهض يبحث ليجعل بيرة فرنسا فوق بيرة الألمان، بل فوق بيرات الأمم جمعاء
وقام برحلات كثيرة واسعة المدى إلى مخامر فرنسا الشهيرة، واخذ يلقى الأسئلة على كل من يلقى فيها، من رئيس الخمارين في معمله، إلى غسال الأواني البسيط في مغسلة. وذهب إلى إنجلترا فأسدى النصائح إلى الرجال الفنانين ذوي الوجوه الحمر الذين يحذقون صنع النبيذ الإنجليزي، والى الخمارين الذين يخرجون تلك الجعات القدسية بمدينة برتن وحرر مجهره إلى الألوف من البيرات، ورقب الخمائر وهي تنقسم وتصنع الكحول. وكان يقع أحيانا فيها على هذا الحي اللعين الذي وجده فيها أعواما مضى وأثبت أنه سبب فسادها، وكان ينصح لأصحابها بتسخين البيرة لقتل هذه الحييات، ويؤكد لهم أنهم لو فعلوا إذن لزادت بيرتهم جودة وطابت مذاقا، وإذن لاستطاعوا تسفيرها مسافات بعيدة وهى صالحة. وكان يسال أصحاب المخامر مالاً لمعمله، ويذكر لهم أن ما يجودون به اليوم يعود عليهم بالنفع في الغد إضعافا مضاعفة. وبهذا المال قلب معمله بمدرسة النرمال إلى مصنع صغير للبيرة، لمعت فيه البراميل النحاسية الجميلة، ووهجت الغلايات الصقيلة
وبدأ عملاً مجهداً متواصلاً، ولكنه لم يلبث أن سئمه، لأنه كان يكره طعم البيرة كما يكره