للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

موضعه، واحتبست أنفاسه، وخرجت من صدره نفثات، ومن عينه عبرات، ومر صاحب القصر به ولم يعن بشأنه ولم يلتفت إليه كأن لم يكن شيئاً موجوداً وأنصرف الفتى يتعثر في أذيال الخيبة ويهيم في الطرقات، لا يقصد غاية، ولا ينتهي إلى نهاية. كأنما وكل بسبل المدينة يذرعها ذرعاً. وأدركه الليل. وبسط عليه جناحين من سواد، فأوى إلى كهف يتخذه اللصوص مثابة فألقى عنده عصا الترحال وأسند رأسه إلى الأرض يلتمس فيها راحة البدن؛ وقد أيأسته راحة النفس، وحاول أن يغمض عينيه، ولم يجد النوم سبيلاً إليهما بين هذه العبرات الحارة المنهمرة انهماراً. ودخل إلى الكهف لصان يحملان أسلاباً، ونزع الشيطان بينهما فاختلفا في قسمة الغنيمة فهم أحدهما وضرب الآخر فأرداه قتيلاً

تنفس الصبح وطاف بالكهف بعض العسس فألفوا القتيل مضرجاً بدمائه وفتى القصة راقداً إلى جواره. فاقتادوه إلى دار الشرطة والقضاء ليتبينوا منه الأمر وهنا دفع اليأس فتانا لأن يلتمس مخرجاً من هذه الكوارث فألقى بنفسه إلى التهلكة وترامى في أحضان الموت وقال: (أنا القاتل!) وفي نفسه بارقة من الأمل، ولكنه أمل في الموت وفي أن يخرج من عناء الدنيا إلى راحة الأخرى

قال القاضي (ولقد حكمنا عليك بالإعدام صلباً) وكذلك كان يجزى القاتلون

وساقت الأقدار تيتوس ذا الحلول والطول إلى ساحة القضاء ليزجى دفاعاً عن أحد الأبرياء، فحانت منه نظرة إلى فتانا جيزيبوس فأنكره، ثم تأمله فتبينه وعرفه، فساءته حاله وأشفق عليه وعقد العزم على أن يخرجه من بأسائه إلى نعيم، وأن يبعث في حواشي هذه النفس الحالكة شعاعً من الأمل لا يخبو. ولم يكن من سبيل إلى هذه الغاية إلا أن يدحض اعتراف جيزيبوس باعتراف آخر، فمثل أمام القاضي وقال: (مهلاً أيها القاضي! أنا القاتل! وهذا الرجل برئ مما يدين به نفسه!)

وقع القاضي في حيرة يصعب الخلاص منها، وأدرك تيتوس أن صديقه يسعى لإخراجه من فم الأسد الذي أقحم نفسه بين فكيه. وهو لا يريد الفرار من بؤس الحياة إلى الحياة، وإنما وجد في الموت منجاة من عذاب الحياة. وفصل جيزيبوس من مجلسه إلى القاضي ودفع صاحبه وقال: (لا! بل أنا القاتل يا سيدي ولا ترفع قصاصك إلا عليّ!)

قال القاضي في نفسه: (أكان الصلب شرفاً يتزاحم عليه هذان المأفونان؟) وفيما هما

<<  <  ج:
ص:  >  >>