وأراق الخمار أحمره وأصفره وهو يقول:(ليت خمري كانت خلاً. . . .!)
وجلس قاضيان يداولان بينهما الرأي:
(أيهما خير: أن تعيش الفضيلة وحدها على الأرض، أو أن تنبت بين أشواك الرذيلة والمنكر والشر، فيكون للإنسانية منها أفراح ثلاثة: فرح النفس المؤمنة بها، وفرحها بالصبر على المجاهدة لها، وفرحها بالظفر بعد مشقة الجهاد. . .؟)
ونظر الشيخ الزاهد في صحيفة أعماله، فإذا هي بيضاء أو كالبيضاء؛ فليس يضاعف الأجر إلا المقاومة. ولو أن عابداً قضى الدهر كله راكعاً ساجداً، ما عدل أجر عبادته كلها ثواب ساعة لشاب تتجاذبه شهوات الدنيا، كلما هفت نفسه إلى معصية رده عنها الأيمان والتقى، فهو أبداً في مجاهدة لا يهدأ، وهو أبداً مأجور أجراً لا ينتهي!
وإنما يقظة الحياة في الجهاد والمقاومة وتوقع ما يأتي به الند على شتى ألوانه؛ فإذا عدم الجهاد، وفقدت دواعي المقاومة، وعاش الإنسان لساعته التي هو فيها - أعمى أو كالأعمى لا يبصر ما أمام - فقدت الحياة معناها الأسمى، وعاش الناس في هدى أشبه بالضلال، وفي فضيلة شر من الإثم والفسوق والعصيان!
ليتك تدري أيها الزاري على القدر. . .! هل تستوقد النار إلا بالحطب؟ فمن أين لك ما دمت تشفق على الغصن اليابس والهشيم الجاف!
وهل يعلم الفسّاق والعصاة من بني آدم، أنهم قبل أن يكونوا في أخراهم حطب جهنم ـ كانوا في دنياهم سلم البشرية إلى مثلها الأعلى. . .؟
وتثاءب الشيطان وتمطى إذ أدركه النعاس الذي ضرب على عيون البشر؛ وإذا هو وقد خضع لناموس البشرية قد ناله ما ينال الناس من الضيق والملل وتقلب الرأي؛ إذا تقلقلت دنياه طلب الاستقرار، فإذا استقر عاد ينشد الحركة ويتبرم بالسكون. . .!
وقلب وجهه في السماء كاسفاً محزوناً، ثم أسند رأسه إلى راحته وجلس يتفكر. . .
أي خير كان يقدم هو للجماعة البشرية على حين كان لا ينبغي إلا الكيد والانتقام؟ هذه الدنيا تنام بعد يقظة، وتسكن بعد حركة، وتسترخي بعد نشاط، لأنه هو قد بطل سحره، وإذ لم يعد في الدنيا شر، مات في الجماعة روح الانبعاث إلى الخير. .!
أيها الخالق العظيم، ما أعجب تدبيرك وأدق حكمتك! خلقت الشر والخير يصطرعان في