هارع إلى أمه وإلى أطفاله لينقذهم من الغرق، وقد خسر مع الخاسرين نصيبه في الزرع، ونسي بقرته وغنمه؛ وعلى هذه البقرة والغنم تقوم حياتهم بعد الزرع. . .
وأدركت الرحمة الطبيعة حينئذ، فسكنت الريح، وانقشع الغبار، فهذا القمر المنير زاهياً متلألئاً يطل على هذه الفاجعة في قسوة وجمود
- ٣ -
وبعد ساعة أو أقل كانت الثلمة متسعةً، تنصب منها في السهل الكائن وراءها حيث البيوت ثم الحقول، مئات الألوف من الأمتار المكعبة من الماء. وكان بداي يشهد هذه الفاجعة التي فجعت بها القبيلة في دهش وتألم. وكانت نفسه ساكنة هادئة بعد أن أفلتت فريسته منه، وأحس شيئاً يتمزق في جوفه. ثم أستيقظ في نفسه شعور غريب جديد، هو غير الشعور بالضراوة والرغبة في الانتقام والثأر؛ وذهل عما جاء من أجله؛ فاقترب من بيوت القوم قليلاً، فرأى - مما رأى - أطفال جسام الثلاثة في صراخهم وعويلهم، والأب يحمل منهم الاثنين الكبيرين وكانا في الرابعة والخامسة، نحيفين واهنين من مرض أو جوع، وزوجه تحمل بعض المتاع وتقتاد البقرة، وأخته تريد أن تحمل أمها العجوز، والطفل الثالث، وهو في الثالثة من العمر ما يزال على الأرض متشبثاً بأذيال أمه يرتجف ويعول باكياً، والأم ذاهلة تحني فتتناوله لتحمله فوق المتاع، فيفلت منها زمام البقرة؛ ثم يذكر الأب، وهو دهش يحمل طفليه، غنمه فيذهب إليها حيث كانت في زريبة مجاورة ليسوقها أمامه. . . وأبناء القبيلة كل منهم مشغول ببلائه، وقد اختلط الحابل بالنابل؛ فكانوا في مثل يوم المحشر الموعود
وكانت الكلاب تنبح شاعرة بالخطر نباحاً صاخباً يملأ الجو
وحينئذ كان بداي يحكم لثامه شداً، ويتنكب بندقيته، ويشمر عن ساعديه؛ ويبادر لنجدة هذه الأسرة وعونها. وأقبل على الأم الذاهلة فتناول منها طفلها فخفف عنها حملها الثقيل. وحسبه جسام، وقد حانت منه التفاتة إليه في الزحام، واحداً من أبناء عمه، فخاطبه مرشداً ومشجعاً:
- (دونك السد)
وكان السد الممتد على طول النهر والمؤدي إلى قرية قريبه، الطريق الوحيد الذي لجأ إليه