حافظ تحيته، بل مشاطرته ومواساته:
إن يكن غاب عن جبينك تاج=كان بالغرب أشرف التيجان
فلقد زانك المشيب بتاج ... لإيدانيه في الجلال مداني
ذاك من صنعة الأنام وهذا ... من صنيع المهيمن الديان
فأعذرينا على القصور كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان
وقال في فتنة الآستانة موجهاً إلى السلطان عبد الحميد صورة من التأسي والتصبر، مشفقاً عليه باكياً، بعد أن كان مغيظاً خانقاً، يعيب على الشامتين شماتهم، وينتقص رجولتهم، ويبين أنه لا زال خارج الحكم عبد الحميد كما كان مملكاً حاكماً:
كنت أبكي بالأمس منك فمالي ... بت أبكي عليك عبد الحميد
فرح المسلمون قبل النصارى في ... ك قبل الدروز قبل اليهود
شمتوا كلهم وليس من الهم ... ة أن يشمت الورى في طريد
ما عهدنا الملوك تبكي ولكن ... علها نزوة الفؤاد الجليد
شفح الدمع فيك عند البرايا ... ليس ذاك الشفيع بالمردود
دمعك اليوم مثل أمرك بالأم ... س مطاع في سيد ومسود
ولعل هذه الفواجع المتكررة، والأرزاء المتتابعة، التي يستوي فيها الفقير لا يجد قوتاً، والشريد لا يعثر على مأوى، والملك لا يأمن غدر الدهر وخيانة الزمن، والسلطان لا يستقر به الجاه، ولا تدوم له العزة - لعل هذه الفواجع - هي التي جعلت حافظاً ينحى باللائمة على حواء أمنا الأولى؛ لأنها ولدتنا ولم توص الزمان بنا خيراً، مع عرفانها بصروفه وأكدراه:
لم تلدنا حواء إلا لنشقى ... ليتها عاطل من الأولاد
سلمتنا إلى صروف زمان ... ثم لم توصها بحفظ وداد
ولكنه في غضبه هذا لم يذهب كما ذهب غيره: يدعو الموت ويتطلب مبارحة الحياة وفراق الدنيا، ولم يكن كمن قال: (فيا موت زر إن الحياة ذميمة)؛ ولا من قال: (ألا موت يباع فأشتريه)؛ بل فطن لما فرط منه، وأنتبه لما بدر، فنفض عن نفسه غبار الشجو، وكابوس الجزع، فهو يسوءه أن يضيق ذرعاً بدنياه، ويؤكد أن الاستسلام للألم مما يشينه، وقد يعوقه