الأزمان والبيئات؛ ويدل على هذا قولي بعد ذلك: وأرى أننا لو نقلنا خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع مثلاً ونشرناها اليوم لما فهم منها، أي إجمالاً، من يعرف مدلولات الكلام العربي من مثقفي اليوم إلا ما فهمه عشرات الألوف من المسلمين حينما خطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الموقف الرهيب قبل ثلاثة عشر قرناً ونصف).
وهذه ميزة للغة الضاد يجب ذكرها على حين أن بعض اللغات سواها قد تغيرت وتطورت تطوراً كاد يجعلها مقطوعة الصلة بينها وبين ماضيها قبل مائتي سنة.
(٨) وأما استغرابك لقولنا إن أغلب النصوص الفقهية من السنة، فيذهب إذا علمت إن آيات الأحكام جاءت جلها إن لم نقل كلها مفسرة موضحة بالسنة، فالسنة مع كونها مصدراً خاصاً لبعض الأحكام فهي في بعض واسطة بين الكتاب وبين الفقهاء في فهم آيات الأحكام، وبهذا تعلم أغلبية الأدلة الفقيهة التي من السنة وإن كان أغلبها في الحقيقة تفسير ما أجمل الكتاب، وهذا معنى التبيين في قوله تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم) آية.
(٩) ثم قلت أيها الفاضل مستدلاً على تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني: (إن الرومانية حكمت الشام قطعاً، وكان ذلك الحكم لقرون كثيرة قطعاً، وكانت الدولة الرومانية وحكمها الشام قبل الإسلام قطعاً. . . ثم قلت وكان الإسلام هو الذي خلف على ذلك بلا شك، وكان لهذا على طول الزمن أثره الذي تختلف به الشام عن الحجاز مثلاً، ولا بد والأوزاعي أبن هذه البيئة الحديثة العهد بهذه الحال الرومانية فلتلك البيئة وهاتيك الثقافية وأثرهما المحتوم في تكوين الأوزاعي الخ. فلو سلمنا جدلاً بصلاحية الفقه الإسلامي وقبوله للتأثر بالبيئة والثقافة كما تعتقد أيها الأستاذ الفاضل، فالشام لم يفتح في عهد الأوزاعي ولكنه فتح في عهد عمر رضي الله عنه، والأوزاعي - وهو من تابعي التابعين، ومن الطبقة السابعة من الرواة، ومن أهل القرن الثاني - لم يأت إلا وقد أنصرم، أو كاد ينصرم بعد رسوخ الإسلام في الشام جيل كامل. ثم إن الإسلام من شأنه أنه لم يفتح بلاداً وتطأها أقدام جنوده الأبطال إلا وينقل إليها معه حضارته وآدابه وأحكامه، وأصرح من ذلك أن أقول إن الإسلام لم يفتح البلاد ويتولى الشعوب إلا لينسخ أدياناً ويقر مكانها ديناً واحداً، ويهدم قوانين ويبني بدلها قانوناً جديداً مفرداً، ويجتث حضارات ويغرس محلها حضارة واحدة؛ فالإسلام لم يفتح