للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يتسع ويستع، حتى تكون على عدوة نهر عظيم دافق، تزخر أمواجه وتجرجر أواذيه. ويبدو لها أن تلقي بنفسها في أعماقه، لأنها لم تعد تحتمل هذا الألم المتصل والشجن الطويل الممض. . . وإنها لتنظر إلى الماء فيجيش قلبها بالذكريات، وتفيض عيناها بالدمع، ويشجب جبينها الكاسف الحزين، ثم يتأود غصنها اليابس الهش، فتنحدر إلى اليم، وتتلقفها اللجة.

ولكن رب النهر الذي كان واقفاً يسمع ويرى يسرع إلى الفتاة فينتشلها، ويصيح ببناته عرائس الماء فيأتين من كل فج عميق، ويترفق باللاجئة الشقية فيواسيها بكلمات تقطر حناناً وتفيض رحمة، ثم يتركها لبناته يداعبنها ويلاعنها.

وتأنس بسيشيه إلى العرائس الحلوة، ولا يخجلها أن تأخذ معهن في حديث حبها، فإذا سألنها عن صفة حبيبها، قالت: (كان صغيرا كالطفل إلا حين يكون في ذراعي، مسنداً رأسه على صدري، فيكون إذ ذاك أكبر من الدنيا بما فيها من مباهج ومفاتن. وكان طيب الأنفاس، فما قبلني أو قبلته إلا شممت عبق الورد في فمه، وأرج البنفسج في خده. وكان إذا عانقني أو عانقته، تحسست له جناحين على ظهره، صغيرين ناعمين، فإذا ساءلته عنهما، أنكر عليّ وصرفني برفق ودعة عن الحديث عنهما، فنأخذ في أمور أخر. وكان يحمل قوساً من ذهب ما تفارقه، وكنانتين من حرير فيهما سهام من رصاص وذهب. . . وما دهاني في الليلة المشؤومة إلا أن أراه يثب من النافذة، فيحلق في كبد السماء كأن له قصراً فيها. . . فبحق زيوس عليكن يا عرائس إلا ما أعلمتنني من هذا الحبيب، فأنتن بنات إله مبارك، ولابد أن يعرف أبو كف من أمره كل شيء).

وصمتت بسيشيه، ونظرت إلى العرائس فرأتهن يحدجنها نظرات دهشةٍ حائرة، ثم يتهامسن، ثم لا يحرن جواباً؛ فقالت لهن:

(أنتن تزعجنني يا عرائس، فهل هكذا يلقي الضيف لديكن؟)

فقالت كبراهن: (لا عليك يا فتاة، ولكنك كنت أتعس مخلوقة على وجه الأرض حين عصيتِ أمر كيوبيد!!)

- (كيوبيد؟ ومن كيوبيد تعنين؟!)

- (كيوبيد بن فينوس، فهو هو الذي كان يهواكِ وكنتِ تهوين!!؟)

<<  <  ج:
ص:  >  >>