ألا يمنعه طلب الجديد من التمسك بتقاليده، وألا تخدعه مطالب الحياة عن روحه الجامعية التي قام عليها بناؤه، وارتفع بها مجده؛ ولعله لا يني في تعفية ما خلفه العهد المشئوم من آثار لتلك الروح المدرسية المشئومة، كانت هي القاضية عليه، لو طال بها الزمن فيه، في غفلة من هؤلاء وإغماض من أولئك، لولا لطف الله بنا ورحمته عليه
إنما ينبغي أن يكون أساس الإصلاح الأزهر هو الأخذ بأساليب البحث الحديثة، ومجاراة الرقي العلمي في مجالاته العليا، ومسايرة الحركة العلمية فيما يتصل بنواحي دراسته، والاتصال بالحياة العصرية اتصالاً نبيلاً يعينه على تأدية رسالته، إذ يهيئ له وسائل الإصلاح الاجتماعي، ويعبد له سبل الدعوة إلى الحق والفضيلة والدين، مع الاحتفاظ بتلك الروح الجامعية التي تأبى أن تتعبد لما دون العلم من المطالب الدنيا، وتلك الصوفية العلمية التي تفرض على صاحبها الفناء في العلم، والاندماج في الدرس، والترفع عن الدنيات. وللأزهر من ديمه في ذلك شواهد باهرة وآيات ظاهرة: فليس في ذلك القول ما يسوغ لقائل أن يرميه بأنه خيال شاعر أو حلم نائم
لا! بل تأريخ العلم كله، وسير العلماء الغابرين والمعاصرين، شاهد بأن الروح العلمية الخالصة التي ترفع العلم فوق كل اعتبار، وتذهب به إلى منزلة من التقديس عالية، هي وحدها التي ينبغي أن تسود جامعات الدرس ومعاهد البحث، وهي وحدها التي تخلع على صاحبها ثوب المجد، وترفعه إلى منزلة الخلود
فليس (تعصير) الأزهر أن ينزل به إلى تلك الدركة الدنيا من الحياة حيث يضطرب الناس ويتعايشون، وأن يعد أهله لمرافق الحياة وقضاء ضرورات العيش ليس غير، ليصير أحدهم معلم صبيان، أو مأذون قرية، أو إمام مسجد، أو واعضاً في مدينة. وتصبح تلك الجامعة الكبرى ولا هم لها أن تخرج لها إلا تخريج أولئك وتزويدهم بما لابد منه لأمثالهم! ويا ضيعة التأريخ المجيد إذن، ويا هوان الاسم الكبير الضخم، ويل السخرية من تلك الصفة الجامعية التي وسموا بها تلك المدرسة!
كم يمتلئ صدري أسى وحسرة حتى ليكاد قلبي أن يتفطر حين أشعر بذلك المصير الذي أخشى أن يهوى إليه الأزهر في سبيله إلى الإصلاح، ومسراه نحو التجديد، لولا أمل يغمر قلبي في حكمة الأستاذ الأكبر وبصيرته، وروحه الجامعية التي تتجلى في أحاديثه وخطبه،