ومديرها يومئذ المرحوم (محمد محب باشا) وكان داهية ذكياً وظريفاً لبقاً، وكنت أخالطه وأتصل به، فدعا (حافظ) إلى العشاء في داره؛ فلما مدت الأيدي قال الباشا: لي عليك شرط يا حافظ. قال وما هو؟ قال: كل لقمة بنادرة
فتهلل حافظ وقال: نعم لك علي ذلك. ثم أخذ يقص ويأكل، والعشاء حافل، وحافظ كان نهماً فما انقطع ولا أخل حتى وفى بالشرط. وهذا لا يمنع أن الباشا كان يتغافل ويتغاضى ويتشاغل بالضحك فيسرع حافظ ويغالط بفمه. . . .
ولكن هذه المضحكات أضحكت من (حافظ) مرة كما أضحكت به. فلما كان يترجم (مكبث) لشكسبير - وهي كأعماله الناقصة دائما - دعوه لإلقاء (محاضرة) في نادي المدارس العليا، والنادي يومئذ يجمع خير الشباب حميةً وعلماً، وكان صاحب السر فيه (السكرتير) زينة شباب الوطنية المرحوم أمين بك الرافعي. فقام حافظ فأنشدهم بعض ما ترجمه نظما عن شكسبير ومثله تمثيلاً أفرغ فيه جهده فأطرب وأعجب. ثم سألوه (المحاضرة) فأخذ يلقي عليهم من نوادره. وبدأ كلامه بهذه النادرة: عرضت على المعتصم جارية يشتريها، فسألها: أنت بكر أم ثيب؟ فقالت: كثرت الفتوح على عهد المعتصم. . .
ونظر حافظ إلى وجوه القوم فأنكرها. . . وبقيت هذه الوجوه إلى آخر المحاضرة كأنها تقول له: إنك لم تفلح
ولقد كان هذا من أقوى الأسباب في تنبه (حافظ) إلى ما يجب للشباب عليه إن أراد أن يكون شاعره، فأقبل على القصائد السياسية التي كسبهم بها من بعد. ونادرة المعتصم كالعورة المكشوفة؛ ولست أدري أكان حافظ يعرف النادرة البديعة الأخرى أم لا. فقد عرضت جارية أديبة ظريفة على الرشيد فسألها: أنت بكر أم إيش؟
فقالت: أنا (أم إيش) يا أمير المؤمنين. . .
وفن (الشعر الاجتماعي الذي عرف به حافظ؛ لم يكن فنه من قبل ولا كان هو قد تنبه له أو تحراه في طريقته. فلما جاءت إلى مصر الإمبراطورة (أوجيني) نظم قصيدته النونية التي يقول فيها:
فاعذرينا على القصور كلانا ... غيرته طوارئ الحدثان
ولقيته بعدها فسألني رأيي في هذه القصيدة، وكان بها مدلاً معجباً شأنه في كل شعره؛