لم يبرح الرجل وابنه يتنقلان في شوارع القرية الموحلة من بيت إلى بيت، وكلما طلبا المبيت والعشاء استهزئ بهما وطردا شر طردة وأخسها، حتى ضجر الفتى وبرم بحكمة والده في هذه الرحلة المضنية في ذلك البلد البخيل. . . فقال له:(اذهب أنت فسأنتظرك على هذه الصخرة الناتئة في حيد الجبل، وسأتسلى بموسيقاي حتى تعود) فقال الشيخ: (وحكمتي التي أردتك أن تراها بعينيك؟ هلم، هلم. . . أترى ذلك الكوخ؟ لندلج نحوه وليكن آخر مطافنا)
وكانت في الكوخ كوة صغيرة ينبثق منها نور خافت. فلما نظر الفتى تمتم يقول:(أبتاه امرأة متهدمة وشيخ محطم! يا لبؤس الحياة، ويا لشظف العيش! لماذا أثرت العاصفة يا أبي؟ إن الماء ينز عليهما ويبلل فراشهما. . .)
- (سترى أن هذا الكوخ هو وحده الذي يبقى)
- (ماذا تعني يا أبي؟ هل تهدم القرية؟)
- (صه! هلم فاطرق باب الكوخ.)
- (قم يا فيلمون. إن بالباب طارقاً)
- (نامي يا بوسيز! إنه البرد ترجم به العاصفة)
- (لا. ليس برداً. إسمع! أناس ينادون. قد تكون بهم حاجة)
ونهض فيلمون متهالكاً على نفسه ففتح الباب. وما كاد الشيخ يذكر حاجته حتى هش صاحب الكوخ وبش، وتلقى الرجل وابنه أحسن لقاء
- (مرحباً مرحباً. . . أنتما في حاجة إلى دفء. بوسيز. انهضي يا امرأة فأوقدي ناراً. أنا أعرف أن الحطب مبلل، ولكن حاولي. . . مرحباً يا كرام معذرة، فنحن نستعين على الحياة هنا بالصبر. بوسيز، هاتي قربة النبيذ أولاً. ليس فيها إلا صبابة! لا بأس! سيبارك زيوس للضيفين فيها. . . هاتي شيئاً من المشمش الجاف يا امرأة!. . .)
وتأتي بوسيز بقربة النبيذ، وما يكون فيها إلا ثمالة، فيتناوله الشيخ ذو اللحية البيضاء، فيتمتم بكلمات فتمتلئ نبيذاً من خير ما عصر باخوس؛ وبعد أن يروي منها هو وابنه، يدفع بها إلى صاحب الكوخ ممتلئة كأن لم يمتد إليها فم! فيتولى الرجل دهش عظيم ويقول: