واعتقلوا من أجل ذلك وأهينوا، فأصبح مثل الشيخ جمال وقد عضته الصراحة بأنيابها يتجنب الخوض فيما يؤدي به إلى نكبة، ويجد الاكتفاء بعرض الآراء أسلم، وربما أعلم أيضاً، لأن مثل هذه الآراء لا ينتهي الخلاف فيها، ولا تزال كل طائفة تجادل في كونها على حق إلى يوم القيامة. ففي بعض المواقف يكون السكوت أفصح من البيان، وأبعد عن مثار الشبهات لا سيما عندما يكون العالم الخبير بأمور عصره وشؤون قطره واثقاً بأن المصلحة هي في جمع الكلمة، وأن جمع الكلمة تحت راية الهدى النبوي لا يتأتى بالترجيح والترجيح والقول بأن هذا فاسد وهذا صحيح إلا في المسائل التي لا خلاف فيها بين العلماء والتي إنما يختلف فيها العوام. . .
فكتاب (قواعد التحديث) لو كان يؤتي من هذه الجهة لما أطراه صاحب المنار هذا الإطراء كله وهو في علم الحديث الجبل الذي لا يطاول والبحر الذي لا يساجل، كما أنه يعلم من طرق التأليف القديمة والمتوسطة والعصرية ما لا يقدر أن ينكره العلامة الكرد علي. ثم إن هناك غمزاً بالسجع، وليس الأخ كرد علي وحده الذي بدأ بهذا الغمز، بل كان أحد الأصحاب أطلعني على كتاب للدكتور زكي مبارك لمحت فيه كلاماً يشبه أن يكون استصغاراً للسجع أو استكباراً لأتيانه؛ وهذا باب جديد عجيب إذا أردنا أن ندخل فيه يطول بنا الأمر. فنكثر بالقول إن السجع وجد في الجاهلية وجاءت منه أمثلة لأفصح فصحائها، ثم جاء في القرآن الكريم، بل القرآن الكريم كله سجع وهو أبلغ الكلام العربي وغير العربي، وجاء في كلام الصحيح والمخضرمين ثم في الطبقة التي تليهم، ثم في التي تليهم ثم في التي تليهم إلى يومنا هذا. ولم نعلم أحداً عاب السجع من حيث هو وإنما يعاب السجع بالنسبة إلى المقام الذي يستعمله فيه الكاتب أي إنه لما كان السجع تقييداً بفواصل كما هو الشعر تقييد بقوافي فلم يكن السجع مستحسناً في المواطن التي يجب أن ينطلق فيها عقال القلم لكمال تأدية المعاني على وجهها. وأما في المواطن التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى المباحث العلمية الصرفة، فليس السجع بالذي يعد سبة على العربية، بل هو من محاسن هذه اللغة. وإن كان يجب حذفه من هذه اللغة من أجل كونه طريقة قديمة ومن أجل أنه عبارة عن زينة كلامية فأن هذا يؤدي بنا إلى اقتراح حذف الشعر أيضاً، فأن الشعر هو من قبيل السجع طريقة قديمة وزينة كلام تتوخى فيها المحاسن اللفظية كما تتوخى المحاسن