ولكن الضابط البريء وأسرته وأنصاره لم ترضهم هذه الخاتمة العرجاء، فضاعفوا جهودهم في سبيل الإعادة ومحو كل أثر للحكم؛ وانقسمت فرنسا عندئذ إلى شطرين، فريق وهو الأغلبية إلى جانب الإعادة وإنصاف البريء والحد من طغيان العسكرية؛ وفريق الوطنيين يؤازر الجيش ويقاوم الإعادة؛ وأشتد الجدل بين الفريقين، واتخذ مظهر سياسيا عنيفا يغشى كل الحياة العامة في فرنسا؛ وفي أثناء ذلك وقف أنصار الإعادة على وثائق وحقائق جديدة تؤيد البراءة، وقدم دريفوس طلبا ثانيا بإعادة النظر، ورأت الحكومة القائمة تهدئة للرأي العام أن تحيل طلبه ثانية إلى محكمة النقض؛ فقررت المحكمة أن تنظر فيه بنفسها، وأصدرت حكمها في ١٢ يوليه سنة ١٩٠٦ بإلغاء محكمة رن وبراءة الضابط اليهودي؛ وفي الحال أعيد دريفوس إلى فرقته ومنح وسام الشرف، وأسدل الستار على تلك المأساة القضائية الهائلة، وهدأت العاصفة السياسية الكبرى التي أثارتها زهاء عشرة أعوام
يقول الكاتب الأشهر أميل زولا في كتابه الذي وضعه عن القضية بعنوان (الحقيقة تسير)(إن فون شفارتز كوبن وحده هو الذي يستطيع أن يذيع الحقيقة الناصعة)، وقد كان ذلك إبان اضطرام الصراع بين الحق والباطل وبين البريء وجلاديه؛ ولكن شفارتز كوبن كان يومئذ مرغما على الصمت كما أسلفنا. أما اليوم فبين يدينا أقواله وشهادته الحاسمة، وقد فاه شفارتز كوبن وهو على شفا الموت في أواخر ديسمبر سنة ١٩١٦ بهذه الألفاظ التي حرصت زوجه على تدوينها (أيها الفرنسيون؛ استمعوا إلي: إن الفريد دريفوس بريء، ولم يرتكب جرما قط؛ وكان الأمر كله دسائس وتزويرا، إن دريفوس بريء) وفي المذكرات والوثائق التي تركها شفارتز كوبن أدلة الحقيقة الناصعة التي طالب زولا بكشفها؛ فان (البردرو) الذي كان أساس الاتهام، والذي نسب زورا إلى دريفوس، كان من صنع استر هازي وبخطه، وكان المجرم الخائن هو استر هازي؛ وتلك حقيقة ثبتت إبان المأساة القضائية ذاتها؛ بيد أن شفارتز كوبن يفصل لنا علائقه بذلك الضابط المجرم، وكيف انه لبث في خدمته عامين يمده بأسرار الدفاع الفرنسي؛ ثم يقول لنا إن (البردرو) لم يصل إلى يده قط، ولم تلتقطه مدام بستيان خادمة السفارة الألمانية من سلة الأوراق المهملة، وتوصله إلى قلم التحريات الفرنسية، كما هو ذائع؛ ولكن المرجح أن استر هازي وضعه في صندوق الخطابات الخاص بالسفارة فاستلبه شخص ثالث لم يعرف قط؛ وهذه شهادة تهدم