ثم أرى فتيانا من فتيان المدينة فهم يونس الكاتب وجماعة ممن يغني قد خرجوا إلى واد يقال له رومة من بطن العقيق، فغنوا، فأثار غناؤهم أهل الوادي، فاجتمع إليهم الرجال والنساء حتى كان حولهم مثل مراح الضأن؛ وأرى محمد بن عائشة مقبلا معه صاحب لهو، حتى يرى جماعة النساء عندهم فيأخذه الحسد، وتحز في نفسه الغيرة، فيقول لصاحبه: كيف بك إذا فرقت هذه الجماعة؟ فيسخر منه صاحبه، فيهيج ابن عائشة فيأتي قصرا من قصور العقيق فيعلو سطحه، ويلقي رداءه، فيتكئ عليه ويغني بشعر عبيد بن حنين:
هذا مقامُ مُطَرَّدٍ ... هدمت منازله ودوره
نمت عليه عداته ... كذباً فعاقبه أميره
ولقد قطعت الخرق بع_د الخرق معتسفاً أسيره
حتى أتيت خليفة الر - حمن ممهوداً سريره
حييته بتحيّة ... في مجلس حصرت صقوره
فلا ينقضي الصوت إلا والنساء كلهن تحت القصر الذي هو عليه، وقد تقوض مجلس يونس ولم يبقى فيه أحد!
وأرى غلاما خلاسيا، مديد القامة أحول، قد ارتقى صخرة في العقيق منفردة، فاضطجع عليها ضجعة خفيفة، ثم هب فزعا وهو يغني غناء ما سمع مثله السامعون، يزعم أن الشيطان أجراه في مسامعه وهو نائم، ويعيد الغناء وهو يتصيد الطير بحبالة في يده، فيمر به شيخا مغني مكة ابن سريج والغريض، وقد أقبلا على بعيرين لهما يزوران المدينة ويتعرضان لمعروف أهلها، ويلقيان من بها من صديقهما، فيسمعان ثم يستعيدان الصوت:
القصر فالنخل فالجماء بينهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
فيعيده، وهو مشغول عنها بصيده، فيقبل أحدهما على صاحبه فيقول: هل سمعت كاليوم قط؟ فيقول: لا والله! فيقول: فما هو رأيك؟ فيقول: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة؟ أما أنا (فثكلته أمه) إن لم أرجع!