لقد كنا إلى عهد قريب أمواتا نرتدي معالم الأحياء، أمواتا في حسنا وشعورنا وتفكيرنا، أمواتا في أهدافنا ومثلنا العليا، أمواتا في نظمنا ومراقفنا الاجتماعية، أمواتا في كل شيء لا يسمع لنا نبض ولا خفق حياة. كنا أحياء نعيش في العدم أو يعيش العدم فينا، كأن الغيب الجليل الهازل قد قذفنا من جوفه جثثا هامدة تغدو من المهد في لحد ومن اللحد في مهد! فأنت، إذ تدرس الأدب العربي في هذه الفترة الغافلة من الزمان التي دامت ما يقرب ألف عام، لا تجد أثرا لما يعتلج في النفوس الخافقة من ضروب العواطف وشتى الانفعالات، وما يجري في الهواجس من الأحلام والأوهام، وما ينتاب الضمائر من قلق أو يأس أو ألم، وإنما تلفي أدبا فارغا أجوف يفيض بالإحساس المعكوس والإسفاف المخل والصناعة البديعية أو التدجيل الذي يعتمد على الطباق والجناس والمقابلة وما إليها! وحسبك أن تقرأ شعر أبن نباتة وأبن معتوق والحلي لتلم بطرف من شعر اللفظ البالي الهزيل الذي يحبس المعاني المشبوبة في أضيق الآفاق!
ثم اتصلنا بالغرب في يوم إسماعيل وبعده، وكان اتصالا وثيقا تناول بالتغيير بعضا من العادات والأوضاع المعيشية، وكثيرا من طرائق التفكير والتعليم؛ وكان للآداب من هذا التطور نصيب وافر، فإن المتأدبين الذين درسوا في معاهد أوربا عادوا إلى ديارهم بعد ذلك يحملون رؤوسا وقلوبا غير التي كانوا يحملون، ذلك بأنهم تذوقوا أشتاتا من الأدب الحي، وبلوا شخصيات من الشعر متمايزة، وفقهوا أساليب النقد الحديث، ولما أرادوا القيام برسالة (الحياة) شرعوا في الهدم وإزالة الأنقاض وتنبيه الأمة إلى مواطن النقص والهزل والكذب
هذا جماع ما يعتري الأدب في اعتباره ملهاة وتسلية؛ ولو أننا شئنا التمثيل لأتينا بهذا الغرض الوضيع الذي يكاد يكون كله غلوا وعبثا، ذلك هو المدح، ومن البديهي أن يكثر فيه الغلو البشع لأن الممدوح ليس يرضى إلا إذا خلعت عليه صورة ترفع من قدره وتعظم من شأنه، ولأن المادح إنما جل همه التكسب والاستجداء. فلا بد إذن من المبالغة والكذب في الإحساس والتوشية المموهة، ولذلك كان المدح من أنواع الأدب الرخيص
وإنما الأدب العالي الرفيع تصوير لما يتردد في أطواء النفس من النزعات والمشاعر، وترجمة لما يجول في الخاطر من الهواجس والأحلام، أو لغير هذا من صروف الحياة وأحداثها - يرسم الشاعر ذلك كله لا هازلا ولا عابثا وإنما جادا كل الجد، صادقا تمام