ارجع إلى نفسك حين تكتب، فخذ عنها واستوحها، وليكن لك من صدق إحساسك ودقة تأملك وصفاء بصيرتك ما تكشف به عن ألوان الحياة النامية الزاخرة التي تسعى في تلافيف قلبك وثنايا ضلوعك بحيث تجد لها صورتين: أولاهما في الضمير وأخراهما على القرطاس. فلن يكون الأدب أدبا إلا إذا صدر عن صاحبه كما تصدر الزفرة عن فؤاد المصدور والدمعة عن عين المحزون؛ وإذا بهرك أن الشاعر أو الكاتب يبدع في التصوير ويسمو في البيان فينبغي أن تؤمن أن الرجل إنما يذيب من لحمه وعصبه، ويريق من مائه ودمه في سبيل الفن والأدب! والاستحسان إنما يجب أن يكون في إطار هذا الأدب السامي الرفيع يرسله المبين لا خادعا ولا مشعوذا وإنما مصورا مشاعره البينة النيرة ونزواته الخفية المكبوتة. فأنا إذ أنقد أنظر إلى إحساس الشاعر هل كان نافذا عميقا؟ وإلى نظرته هل كانت عامة شاملة؟ ثم إلى تعبيره هل كان فيه مجيدا موفقا؟ فإذا تبين لي هذا كله على نحو ما أريد استحسنت وفضلت، وأنا محق فخور في استحساني وتفضيلي. وقد يكون من الخير أن نضرب لذلك مثلا نوضح فيه هذا الذي نزعم، فقد تغني الأمثلة عن تقرير القواعد النظرية والشروح المستفيضة
ما اختلف عربي إلى جامع بني أمية في الشام إلا أخذته حالة نفسية خاصة ببقايا المجد والعظمة، يحسبها في أطوائه غامضة مبهمة، كئيبة متحسرة! فإن كان مبينا فصيحا وشاء نشرها وتوضيحها لم يزد على قول أمير الشعراء:
مررتُ بالمسجد المحزون أسأله ... هل في المصلى أو المحراب مروان
تغير المسجد المحزون واختلفت ... على المنابر أحرار وعبدان
فلا الأذان أذان في منارته ... إذا تعالى ولا الآذان آذان!
هذه أبيات صادقة لا تمويه فيها ولا تضليل، نظمها الشاعر في قالب رائع جميل، ولعل في بسط الحزن على المسجد ما يضاعف هذه الروعة التي لا تلمحها في الكلمات منفردة، وإنما تلحظها منبثقة من خلال الاتساق والانسجام. إنه ليحلو لي هذا التساؤل عن مروان، وهذا الترجيع للمحزون فاقبع في مكاني هامسا في خفوت (وا حسرتاه على شوقي!)
ولنتأمل - في روية وإنعام - صورة هذا العزيز المهان التي يعرضها علينا شوقي: