وهو حين يهم أن يكتب، يختار موضوعه، ثم يتركه للفكر يعمل فيه عمله، وللواعية الباطنة أن تهيئ له مادته، ويدعه كذلك وقتا ما، يطول أو يقصر، يقيد في أثنائه خواطره؛ لا تكاد تفلت منه خاطرة؛ وهو في ذلك يستمد من كل شيء مادة وحي، فكأن في الموجود الذي يراه صوتا يسمعه، وكأن لما يسمعه لونا يراه، وكأن في كل شيء شيئا زائدا على حقيقته، يملي عليه معنى أو رأيا أو فكرة
فإذا اجتمع له من هذه الخواطر قدر كاف، يأخذ في ترتيبها معنى إلى معنى وجملة إلى جملة، وهذه هي الخطوط من هيكل المقالة
ثم يعود إلى هذه الخواطر المرتبة، ينظر فيها، ويزاوج بينها، ويكشف عما وراءها من معان جديدة وفكر جديد؛ ولا يزال هكذا يزاوج ويستولد، ويستنتج من كل معنى معنى، وينفلق له عن كل رأي رأي، حتى تستوي له المقالة فكرة تامة بعضها من بعض، فيكتبها
ولا تراه حين يكتب أو يملي ينظر إلى أصول المقالة بقدر ما ينظر في أعماق فكره إلى ما يتصل بمعنى ما يكتب؛ فقد يكون المملى منه صفحة أو صفحتين، فيملي صفحات وصفحات
ومذهبه في الكتابة إعطاء العربية أكبر قسط من المعاني؛ فهو لا يكتب الكتابة الصحافية السوقية، لأن الهدف الذي يرمي إليه هو أن يضيف ثروة جديدة إلى اللغة. ولن تجد كاتبا غير الرافعي يجهد جهده فيما يكتب فلا يحاول مرة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغا يريد أن يمتلئ
وميزة أخرى تراها في كتابة الرافعي، هي أنه لا ينحرف مرة واحدة عن مذهبه في المادة والموضوع، فهو هو منذ كان إلى اليوم، لم يرجع عن رأي رآه، أو يناقض نفسه في منهج ابتدعه، وهذا بعض أسرار الإيمان في هذا الرجل الذي لم يغالط نفسه قط
وله فلسفة خاصة به، تعرف فيها طابعه وخلقه ومزاجه، على حين ترى أكثر فلسفة المتفلسفين من أدبائنا مزقا مرقعة من آراء فلان وفلان. . . وإني لأشهد أن هؤلاء أكبر من أي فيلسوف في الأرض، لأنهم وعوا في رءوسهم آراء كل فلاسفة الأرض. . . ثم لم يزيدوا. . .!
وحظ الرافعي من لغة العامة كحظه من الفرنسية. . . فأكثر لغته من الكتب، وقد استغنى