بالاطلاع عن الرواية، وبالقراءة عن المدارسة والاستماع؛ وهو مع ذلك قد يصنع أغاني شعبية بديعة، بالغة الغاية في بلاغة العامية، من دون أن ينحرف في ذلك عن أسلوبه في البيان العربي وطريقته في توليد المعاني؛ ولعل قراء (الرسالة) لم يزالوا يذكرون له (أغنية الزبال!) وتراه إذ يحاول أن يصنع شيئا من ذلك يرجع إليّ ليسألني عن كلمة أو تعبير مما ينطق العامة؛ فأقوم حينئذ منه مقام قاموس العامية. .
وهو مع ذلك لا يرى أكثر ما تكتب الصحف إلا عامية راقية. . . فهو يشكو دائما الجو العامي الذي يحوطه، فكيف به لو كان يسمع لغو الناس. . .؟ ومن ثم لا يهم الرافعي أن يكتب إلا حاول جاهدا أن يتخلص من هذا الجو الذي كان فيه، فيرجع إلى بعض كتب العربية يقرأ منها صفحات كما تتفق، ليعيش لحظة قبل الكتابة في بيئة عربية فصيحة اللسان. وخير ما يقرأ في هذا الباب كتابات الجاحظ وابن المقفع. وأحب الكتب إليه من بعد، كتاب الأغاني لأبي الفرج
ولكتابة الرافعي جرس موسيقي خاص تتميز به، حتى ما يمليه على عجل بلا إعداد ولا توليد؛ وكثيرا ما يملي بلا إعداد صفحات وصفحات، وقد أملى عليّ مرة مقالاً طويلاً في الرد على بعض الأدباء، استغرق تسعة أعمدة من صحيفة يومية، على حين لم يستغرق إملاؤه ساعات؛ ولعل تعبي في كتابته كان أكثر من تعبه في إملائه. . .!
والرافعي على ما يبدع في كتابته، لا يرى ما كتبه يرضيه بعد الفراغ منه بساعات، فهو دائما يطلب الأعلى؛ وهو نوع من التواضع ونوع من الطموح في وقت معاً. . .!
ويتهم الرافعي بالغموض أحياناً؛ وليس ثمة غموض فيما يكتب إلا عند من لم يتزود من الأدب الصحيح، أو يتعود قراءة أدب الرافعي؛ على أن كتابته في مجموعها لاتصل إلى نفس قارئها إلا أن يقرأها قراءة الشعر، بعقله وروحه، لا قراءة القصص والروايات، يفتش بعينيه بين السطور عن معنى يسليه، أو حادثة يزجى بها الفراغ. . . ونصيحتي إلى الذين يطلبون التسلية في الأدب، ألا يقرءوا كتب الرافعي، فإنها لن تجدي عليهم شيئا. . .!
وقد يطلب إليه الكثير من ناشئة الأدب أن يجعل أدبه أهون مما هو أو أقل دسما، فيأبى أن ينزل إلى ذاك؛ ومذهبه أن يحاول جذب الجمهور إلى أعلى، بدل أن يتدلى هو إلى الجمهور، وأن يكتب ما يرضي الفن لا ما يرضي الناس. على أنه لو أراد الرافعي أن