للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يحسم هذه المشكلة الخطيرة التي بينه وبين منافسيه؛ فيحسن بنا أن نتركه قليلاً يستقرّ في منصبه الجديد، وينظم جيوشه، ويرى رأيه، لننظر ماذا يفعل الخليفة الآخر مع الوفود التي كانت تأتيه من أنحاء البلدان وأقاصي الأمصار، لتُقرَّ بخلافته، وتجدّدَ بيعته، وتطلب منه العطاء وتظهر له حسن استعدادها لنُصرته وتأييده، ولنرى في الجملة سياسته مع جنده الذين هم عماد خلافته وسند دعوته

جاءه مصعب أخوه بجماعة من أعيان أهل العراق، بعد أن مهَّدها، وملك زمامها، وخاطبه قائلاً: (لقد جئتُك بوجوه أهل العراق ورجالاتها، ليؤكدوا لك البيعة، وليأخذوا منك العطايا!) فيدعوه حرصه أن يمنعهم العطاء ويقول لأخيه: (إنما جئتني بعبيد أهل العراق، يستنزفون بيت المال؛ لوددت أن لي بهم صرفَ الدينار بالدرهم!!). وكان هذا الردّ طعنةً نجلاء أصابت قلوب أهل العراق، فزلزلت خلافته ولما تزل في مهدها؛ وما فتئ يجري على هذه السياسة، سياسة الحرص والشحّ بالمال، مع التأنيب والزجر، وعدم التشجيع بالكلمة الطيبة - ولقد بالغ في تقتيره على الجنود أيما مبالغة، فكان أحياناً يقتصر على إطعامهم التمر، مع التقتير في صرفه لهم، فإذا فرُّوا أنَّبهم بقوله: (أكلتم تمري، وعصيتم أمري!) حتى قال فيه شاعرهم:

ألم تر عبد الله، والله غالب ... على أمره، يبغي الخلافةَ بالتمر!؟

وكان يدعوه حرصهُ أن يقول: ماذا عسى أن أنتفع بالدنيا، وإنما بطني شبرٌ في شبرٍ؟ ويقول المسعودي: أظهر عبدُ الله الزهد وملازمة العبادة مع الحرص على الخلافة، وشبر بطنه. وليس من شك في أن سياسة التقتير التي نهجها هي سياسة عاجزة، لا تنتج إلا الهزيمة وسقوط الدعوة، وضياع الأمر، فلا يسعُنا إلا أن نقول إن هذا موطن ضعفٍ كبير، ما كان ليليق بطالب الخلافة، ولا سيما إذا وجد أمامه مزاحماً قوياً، وخصماً عنيداً كعبد الملك بن مروان!! إذ كيف يبذل الجنودُ في سبيله الدماء، ثم يضنّ عليهم بالعطاء؟ إن هي إلا الهزيمة الكبرى! وإذن فقد جنى على عبد الله بخله، حيث صرف عنه القلوب، فتحولت الوجوه إلى الخليفة الآخر، يجدون فيه ملكاً يكثر العطايا، ويكرم الوفود، ولا يُعزُّ الدرهم والدينار، بل يجود بالدنيا لتقبل عليه الدنيا؛ اتجهت قلوبُ الناس إلى عبد الملك، وشخصت أبصارهم إلى بريق نُضاره، فلما أنس بهذا، ووثق بضعف عدوّه من هذه الناحية، توجه

<<  <  ج:
ص:  >  >>