العينين، لا تقدر قيمة الأشياء إلا بحسب قائمة عندها
يطل على النافذة فتى تكاد تيبس عضلات وجهه المتصلب، على عينيه نظارتان، يمد قيثارته التي طالما ملأت ألحاناً، وأشبعت وحدته أماناً، يقدمها بيد مرتعشة ليرهنها، يجد ثمن الرهن ضئيلاً فيراجع الفتاة الجالسة فتجيبه: هذا هو الثمن المحدد! ولكن صوتاً يهيب بها في داخلها، وإنما هو صوت الحنان على الفن الذبيح. . . فتزيد الثمن وتدعو الله أن يذهل والدها عما زادت، ليتسنى لصاحب القيثارة أن ينتفع ببدل قيثارته. فيأخذ الثمن ويحصيه بعد خروجه فيجده أكثر مما قالت، فيعود بقلبه البسيط، فيعثر بالفتاة خارجة وتخبره أنها شذت معه إكراماً لفنه؛ وإذ يسمع - شوبير - ألحاناً تأتي من بعيد فينطلق وراءها وهي تقودها إليه عاطفة غريبة، فتسأله سر ابتهاجه بهذه الألحان، فينبئها أنها ألحانه يرددها الصبايا الحانيات على الماء
- إن ألحانك ترددها (فينا)؟
- أجل! ترددها (فينا)
- أنت سعيد إذاً شوبير! ولابد أنك غني
- أما الغنى فلا
- ولماذا تثابر إذن على التلحين؟
- وما يكون عمل شوبير في الوجود إذا انصرف عن التلحين؟
- وهذه الأبيات الرقيقة التي أسمعها أهي من (جيته)؟
- لا!. ومن هو جيته؟ إنني لم أسمع به قبل اليوم
- إنها من نظم صديقي (موللر)
- عجيب، ألا تعرف (جيته)؟
وهنا يعودان على آثارهما فتثب إلى غرفتها وتقذف له على طريقه بديوان (لجيته) فيأخذ الكتاب، ويلتهم ما في الكتاب ويتلو ذاهلاً غافلاً؛ يخطر في الشوارع وعيناه شاخصتان في الكتاب، ويدخل قاعة الدرس وطلابه في حرب يعلنها بعضهم على بعض، سلاحها الأوراق والكتب وإهراق المداد! وقد تصيب دواة قبعته فتطير عن رأسه فلا يشعر: ولكنه لا يكاديستقر في مكانه حتى تهدأ الجلبة وتقر الحركة، فيعجبه هذا السكون ويشكر طلابه