بقيت ملاحظة لابد منها وهي أن المصريين وعلى الخصوص الطبقة المثقفة منهم قلما يلاحظون الرياح وهبوبها واتجاهها. فقد يختلف اتجاه الرياح في اليوم الواحد من أيام الخماسين مرتين أو ثلاثا فلا تنتبه إلى هذا التغيير في اتجاه الريح. وأقصى ما نلاحظ أن الهواء حار أو شديد. وانه قد انقلب فصار هادئا بارداً.
وان المرء لتأخذه الدهشة حين يقارن هذه الحال بما كان عليه العرب من دقة الملاحظة لهذه الظاهرة الطبيعية وكيف استطاعوا أن يميزوا شكولها وضروبها فراقبوا اتجاهاتها المختلفة وأطلقوا على كل ريح اسماً يدل عليها. ثم لاحظوا ما بها من قوة وضعف وجعلوا لكل اسمه، وكذلك ميزوا الرطب منها والبارد والحار وما إلى ذلك.
ولئن كان العلماء اليوم يرقبون اتجاه الرياح ويقيسون سرعتها وشدتها ودرجة حرارتها مستعينين بآلات دقيقة فان العرب قد سجلوا هذا كله من غير استعانة بآلات. فمن حيث اتجاه الرياح نرى العرب قد ميزوا بين الرياح التي تهب من الشمال والجنوب والشرق والغرب، ورياح الشرق هي التي سموها الصبا ويقابلها من الغرب الدبور. وكانت الريح أحيانا تهب منحرفة عن الجهات الأربع الأصلية فكان العرب يدعونها عند ذلك بالنكباء.
ثم أرادوا أن يميزوا بين الرياح الضعيفة المريضة والقوية العنيفة فأكثرها هدوءاً النسيم التي تهب بنفس ضعيف ثم الرخاء السهلة ثم الحنون التي لها مثل حنين الإبل ثم تليها الرياح الشديدة فالبارح التي تهز الأشجار.
وتأخذه عند المكارم هزة ... كما اهتز تحت البارح الغُصن الرطب
ثم الهوجاء التي تجر وراءها ذيلاً من التراب ثم الزعزع ثم العاصفة، ثم الحاصب وهي التي تقشر الحصا من وجه الأرض (وأرسلنا عليهم حاصبا).
وكذلك ذكر العرب أنواعا خاصة من الرياح فالزوبعة هي التي تدور في الأرض دون ان تقصد وجهاً واحداً. والإعصار ريح تدور بقوة وتنعكس من الأرض إلى السماء. وهكذا تجد في العربية كثيراً من الدقة في التمييز بين الرياح القوية والضعيفة. أما ملاحظتهم للرياح الحارة والباردة فلا تقل عن هذا دقة. فالريح البليل هي المنعشة ذات الندى التي ليست بالحارة ولا بالقارسة وكذلك الصراد أبرد منها قليلا. أما الرياح الشديدة البرودة فهي العريّة التي تهب عادة من الشمال: