للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يعنيهم لذلك بهرجة اللفظ للفظ، وقد زادني حرصا على هذا الأسلوب إني رأيت مثله موضع الإطراء من طائفة من كبار الكتاب والفلاسفة. وأنت لا ريب يا صديقي قد قرأت نقد (تين) لفلسفة كوزن في أحد الأجزاء الثلاثة من كتابه (رسائل في النقد والتاريخ) ورأيت كيف جعل من أشد ما آخذه به أنه يطيل من حيث لا تقتضي الفكرة الإطالة، وكيف جعل ينقل الصفحة الكاملة من كوزن فيضع فكرتها في سطرين أو ثلاثة اسطر. هذا والأدب الذي أقرأ ينحو اليوم نحو هذا الأسلوب. فبعد أن كانت روايات روسو تقع في خمسمائة صفحة أو اكثر نزعت القصة شيئا فشيئا بأسلوبها إلى الإيجاز. لا في وقائعها، ولكن في بهرجة الألفاظ التي تقص بها تلك الوقائع، ولعل ميل العالم الحاضر إلى السرعة في كل شيء هو الذي عفى على الإطالة، فملّ الاستماع إلى الأشخاص الذين يعجبون بالاستماع إلى كلامهم حين يتكلمون فيطيلون القول لتطول لهم لذة هذا الاستماع، وملّ قراءة الأشخاص الذين يعجبون بألفاظهم حين يكتبون فيطيلون رسائلهم وكتبهم. لعل هذا الميل إلى السرعة هو الذي مال حتى بالأدب إلى أسلوب القانون، وهو الذي جعل الذين درسوا القانون في فرنسا وفي مصر وفي كل أمة من الأمم يجددون في الأساليب كما يجدد فيها الذين توفروا على دراسة الأدب، أو أكثر مما يجدد فيها هؤلاء في بعض الأحايين، والفن الحديث هو الآخر ينحو هذا النحو، فالبساطة والقوة هما اليوم أساسه، ويخيل إلي أن أسلوب هذا الفن وأسلوب الأدب وأسلوب القانون قد اتفقت اليوم وقد نفت الزخرف للزخرف، وأصرت على أن يكون اللباب هو الأساس في أساليبها جميعا. اللباب الذي يعطي القطعة الفنية طابعها والذي يقيم نظريات القانون ويحقق رسالة الأدب، اللباب الذي يقف من هذه جميعا كالبيت المشيد من غير حاجة إلى ما تعودته القرون الماضية من زخرف عصور الرومانتسم ومن زخرف الكلاسيك أنفسهم. ولعلك توافقني يا صديقي على الأسلوب هذا ولا ترى رأيا غبره وإن كان الخلاف بيننا على اللغة وعلى الأسلوب قديما. فقد درجت أنت من أزهريتك التي أشرت إليها إلى أسلوبك الجديد وجاهدت أنا ما استطعت الجهاد حتى وصلت إلى ما أنا اليوم.

لكني أعترف يا صديقي بأنك على حق حين آخذتني بأنني أسرع فيفوتني لذلك التحقق من بعض الشؤون وانك وقعت على هنّة ما كان يجوز لي أن أقع فيها حين أردت أن أذكر

<<  <  ج:
ص:  >  >>