للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اللاذع، فناضل عنه الفرزدق لموجدة في نفسه على جرير، وتهاجى الشاعران التميميان من أجل ذلك. وفضل الأخطل الفرزدق على جرير إما لدفاعه عن قيس، وإما لرشوة محمد بن عمير إياه، فهجاه جرير، ثم نبحه الهجاء من كل مكان حتى نصب له من الأقران ثمانون شاعراً ظهر عليهم جميعاً إلا الفرزدق والأخطل فانهما ثبتا له ونازعاه الغلبة. وانشعب الناس في أمر جرير والفرزدق شعبتين تناصر كل منهما أحد الشاعرين؛ وكان بين الفرزدقيين والجريريين ما بين العلويين والأمويين، يطلب كل منهما الغلبة لصاحبه بالدعاية والنكاية والرغبة والرهبة والحلف، يقوم الأولون بالمربد والآخرون بمقبرة بني حصن، وقد وقف الشاعران كل بين أتباعه وأشياعه ينشدهم شعره وهم يكتبونه، والرواة ينشرونه، والأدباء والأمراء يتناولون ما يروى بالموازنة والنقد والحكم، والأنصار يحاولون رشوة الشعراء واستمالة العلماء ليحكموا لصاحبهم على خصمه؛ فقد روى الأغاني أن أحدهم تبرع بأربعة آلاف درهم وبفرس لمن يفضل الفرزدق على جرير. وليس أدل على اهتمام الناس بأمرهما واختلافهم في الحكم على شعرهما من أن يتهادن الجيشان المتقاتلان ساعة ليحكم أحد الخوارج الأدباء بين رجلين من رجال المهلب تنازعا في أمر جرير والفرزدق، فقد ذكر ابن سلام أن رجلين تنازعا في عسكر المهلب في جرير والفرزدق وهو بازاء الخوارج، فصار إليه فقال لا أقول فيهما شيئاً، وكره أن يعرض نفسه لشرهما، ولكن أدلكما على من يهون عليه سخطهما: عبيد بن هلال، وهو يومئذ في عسكر قطري بن الفجاءة، فأتيا فوقفا حيال المعسكر فدعواه فخرج يجر رمحه، وظن أنه دعي إلى المبارزة، فقالا له: آلفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: عليكما وعليهما لعنة الله! فقالا: نحب أن تخبرنا ثم نصير إلى ما تريد، فقال من يقول

وطوى القيادُ مع الطراد بطونها ... طي التَّجار بحضرموت برُوَدا

قالا: جرير. قال: هو أشعرهما

وهناك طائفة أخرى من شعراء العراق كعبيد الراعي وأبي النجم العجلي والراجز اتخذوا من الشعر ظفراً وباباً مزقوا بهما الأعراض وأشاعوا هجر القول في الناس، ولكن أحدهم لم يبلغ من سطوة الشعر ونباهة الذكر ما بلغ جرير والفرزدق والأخطل، لأنهم كما قال أبو عبيدة: (أعطوا حظاً من الشعر لم يعطه أحد في الإسلام: مدحوا قوماً فرفعوهم، وذموا قوماً

<<  <  ج:
ص:  >  >>