للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وتركت النظر إليهم، واستماع أحاديثهم منصرفا إلى دراسة المرسح!

وكما كان الجاحظ وهو من أئمة الدين يؤلف الرسائل في القيان، كنت عازما على كتابة فصل في نقد مغنيات بغداد آلائي يطربن أبناء الشعب في ساعات لهوهم ومرحهم. فقلت أخاطب نفسي: (إليك المادة الأولى من مواد الموضوع)، ثم أخرجت قلمي ودفتر مذكراتي فكتبت:

(كانت المغنية الراقصة الأولى التي يسمونها جميلة العودية معتدلة القامة، نحيفة ترتدي ثوبا قصيرا بنفسجي اللون، يتوج رأسها تاج من اللؤلؤ المزيف. وجهها مستطيل. نظراتها تدل على غباء. تضاحك الناس بين حين وآخر. . . وأما غناؤها. . .)

وكتبت صفحة أو صفحتين من دفتري في ذكر غنائها؛ وطريقة إنشادها، ثم انتقلت إلى وصف الثانية، وقد جاء دورها وحانت مني التفاتة إلى أشخاص قصتي؛ فألفيتهم عاكفين على مائدتهم يأكلون ويشربون ويتحادثون، وكان سليمان يفرغ الثمالة من زجاجة (الربع) التي كانت أمامه في كأسه، ثم يطلب من الخادم زجاجة (ربع) ثانية، وعجبت له كيف سكن بعد هياجه، ثم سمعته يقول لصاحبه:

- (إنني أكرهها. . أكره تلك المغنية الهزيلة. . أكره تاجها المزيف. . أكره وجهها المستطيل. . أكره نظراتها. . وأحب زهراء وإن لم تكن مغنية من ذوات الفن ولا ذات شرف في هذا المجتمع)

وجاءه الخادم بزجاجة؛ ولم يجبه أحد. وفتح الجريدة التي كان ألقاه ساعة أقبل على المائدة وأشار إلى مقالة فيها وقال:

- (صرت منذ اليوم أعلن حبي لها على رءوس الأشهاد، فهذه المقالة بل هذه الفلسفة الجديدة قد غيرت رأيي)

وقرأ:

(لا تحتقروا أحدا من النساء، فبنو الإنسانية سواسية في هذه الدنيا. . . . .)

ولم أستغرب هذه (الفلسفة الجديدة) - على ما وصفها - ولم أعرف صاحبها، التي راح يؤيدها سليمان في حماسة شديدة. وخيل إلي من عينيه المحملقتين وصوته الراعد، أن الثورة الكامنة في أعماق نفسه على وشك الظهور مرة أخرى. ولكنه كان مضطربا قلقا، فلم

<<  <  ج:
ص:  >  >>