للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وعقائد الناس، فخطئوا بعضاً وكفَّروا بعضاً؛ ثم ذهبوا إلى أن الخلافة تصح في غير قريش وفي غير العرب، وأن العمل جزء من الإيمان، فحرصوا كل الحرص على أداء الشعائر واجتناب الكبائر، ولاذوا بكور الجبال يدعون جهراً إلى مذهبهم دون مواربة ولا تقية ولا هوادة؛ فكانوا في الدين كما قال صاحبهم أبو حمزة الشاري: (أنضاء عبادة، وأطلاح سهر؛ قد أكلت الأرض أطرافهم، واستقلوا ذلك في جنب الله؛ فإذا كان الجهاد ورعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشاب منهم قُدُماً حتى اختلفت رجلاه في عنق فرسه، وتخضبت بالدماء محاسن وجهه، فإذا أنفذه الرمح جعل يسعى إلى قاتله ويقول: (وعجلت إليك ربِّ لترضى)

وكانوا مع هذا الورع الشديد والخشية البالغة يقسون على مخاليفهم، فلا يرحمون ضعف المرأة، ولا براءة الطفل، ولا شيخوخة الهرم، ولا وشائج الرحم، لأنهم - كما ظنوا - باعوا أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، فقطعوا أسباب الحياة، وأماتوا عواطف الدنيا، وقاتلوا وقُتلوا في سبيل هذا المذهب وتلك الغاية. وهم لصراحة بداوتهم، وشدة عصبيتهم، وخلوص عقيدتهم، وما تقتضيه دعوتهم من إدمان الحجاج والناظرة، أسلس الناس منطقاً، وأروعهم كلاماً، وأمتنهم شعراً؛ ولكن الشعر كان عندهم في المحل الثاني من الخطابة، لقيام أمرهم على الإقناع والجدل بآيات الله وأحاديث الرسول، وغناء الشعر في ذلك قليل. فإذا ما صمد الخارجي إلى الخصم، أو هجم على الموت، أو وقع في الأسر، جاشت نفسه بمتين الرجز، أو رصين القصيد، يضمنه وصفه للحرب، وولهه للقتال، وزهده في الحياة، واستخفافه بالموت، وشوقه إلى الشهادة، وظمأه إلى الجنة، في لفظ جزل وأسلوب قوي؛ وقلما يدور شعرهم على غير ذلك. فمن الرجز قول أم حكيم:

أحمل رأساً قد سئمت حمله ... وقد مللت دهنه وغسله

ألاَ فتى يحمل عني ثقله!

ومن القصيد قول معاذ بن جوين يحرض قومه وهو أسير:

ألا أيها الشارون قد حان لامرئ ... شرى نفسه لله أن يترحلا

أقمتم بدار الخاطئين جهالة ... وكل امرئ منكم يصاد ليُقتلا

فشدوا على القوم العداة فإنها ... أقامتكُم للذبح رأياً مضللا

<<  <  ج:
ص:  >  >>