كقول الشاعر:
تذكرني أمَّ العلاء حمائمٌ ... تجاوبن أن مالت بهن غصون
تملأ طلا ريشِكُن من النّدي ... وتخضرُّ مما حولكن فنون
ألا يا حمامات اللوى عدْنَ عَودة ... فأني إلى أصواتكن حزينُ
فعُدْن فلما عدْنِ كدْن يمتنني ... وكدتُ بأسراري لهن أبين
فلم تر عيني مثلهن حمائما ... بكين ولم تدمع لهن عيون
وقول أبي كبير الهذليّ:
ألا يا حمام الأيك إلفُك حاضر ... وغصنُك ميّادٌ ففيم تنوحُ
أفِق لا تنُح من غير شيءٍ ... فأنني بكيتُ زماناً والفؤاد صحيح
ولوعاً فشطت غربةً دارُ زينب ... فهأنا أبكى والفؤادُ قريح
ولهذا الشعر قصة طريفة لا بأس من روايتها هنا لما اشتملت عليه من المعاني الشعرية التي نحن بصدد شرحها في هذا الفصل.
لما وُلَي عبد الله بن طاهر خراسان أخذ معه عوف بن محلِّم الخزاعي؛ فلما كانا (بالرّي) جلسا تحت شجرة، فسمعا صوت عندليب يغرد، فقال عبد الله: هل سمعت مثل هذا الصوت يا عوف؟ قال: لا والله، ألا قاتل الله أبا كبير الهذلي حيث يقول: (ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ) الأبيات. فقال عبد الله بن طاهر: لقد كان في هذيل مائة وثلاثون شاعراً وكلهم مُفْلِق، وكان أبو كبير أحسنهم. بالله عليك يا عوف إلا ما أجزت هذه الأبيات؛ فقال: كبرتْ سني، وفنى ذهني، وأنكرتُ ما كنتُ أعرف؛ فقال عبد الله: أقسمت إلا ما فعلت؛ فقال:
أفي كل عام غربةٌ ونزوح ... أما للنوى من وَنيةٍ فتريح
لقد طلَّح البين المشتُّ ركائبي ... فهل أرينَّ البين وهو طليح
وشوقني (بالرَّيّ) نوح حمامة ... فنحت وذو اللّبِ الغريب ينوح
على إنها ناحت ولم تُذْرِ دمعةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مَهامهِ فِيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضرٌ ... وغصنك مَيَّادٌ ففيم تنوح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصار التَّسيار وهي طروح