فإن الغنى يُدني الفتى من صديقه ... وعدْم الغنى بالمعسرين نزوح
فبكى عبد الله بن طاهر وحلف ألاُ يعمل معه خفاً ولا حافراً إلا بالرجوع إلى أهله، وأمر له بثياب ودنانير؛ فقال عوف:
يا ابن الذي دان له المشرقان ... طُرَّا وقد دان له المغربان
إنَّ الثمانينَ وَبلِّغتُها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدّلتني بالشطاط انحِنا ... وكنتُ كالصعدة تحت السنان
وبدّلتْني من زَماع الفتى ... وهمّتي همَّ الجبان الهِدان
وقاربت مني خُطى لم تكنِ ... مقارباتٍ وثنتْ من عِنان
وأنشأتْ بيني وبين الورى ... عنانةً من غيرِ نَسج العنَان
ولم تَدَع فيَّ لمستمعٍ ... إلا لساني وبحسْبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المُصْعَبيِّ الهِجان
فقرّباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبلً منعايَ إلى نسوةٍ ... أوطانها حران والرفتان
أما أمثلة المعاني الشعرية من شعر المعاصرين، فمن ذلك قصيدة (مصاير الأيام) للمرحوم احمد شوقي بك، فقد بلغت هذه القصيدة من جمال الفن، ووفرة هذه المعاني الفاتنة غايةً لم تبلغها قصيدة أخرى من شعر المعاصرين، وأنا انصح للأدباء والتادبين بحفظها وروايتها فأنها تعتبر بحق من معجزات الشعر الحديث لما فيها من دقة في تصوير الحياة بجميع مراحلها حتى ليخيل لك أنها حياة كاملة من مبدئها إلى نهايتها يقول في أولها:
ألا حبِّذا صحبةُ المكتبِ ... وأحْبِبْ بأيامه أحْبِبِ!
ويا حبذا صبيةٌ يمرحون ... عِنانُ الحياة عليهم صَبي
كأنهمُ بَسماتُ الحياة ... وأنفاسُ رَيحانها الطيّبِ
يُراح ويُغدى بهم كالقَطيع ... على مشرق الشمس والمغرب
إلى مَرْتع الفِوا غيَره ... وراعٍ غريبِ العصا أجنبي
ومستقَبلٍ من قيود الحياة ... شديدٍ على النفس مستصعَب
فراخ بأيكٍ فمن ناهضٍ ... يروض الجناحَ ومن أزغَبِ