أبينك عهدٌ وبين الجبال ... تزولان في الموعد المنتظر
الخ. . .
فإن المعنى الأصلي لهذه الأبيات لا يزيد على أنه يصف أبا الهول بطول البقاء، وأن العصور المتوالية والأجيال المتعاقبة لم تنل منه منالاً، ولم تصدع له بناء، فأنظر إلى عبقرية شوقي كيف أتت بذلك المعنى اليسير واستخرجت منه تلك المعاني الكثيرة الساحرة ومزجته بتلك المحسنات الفاتنة؛ أتراه لو انه اقتصر على نظم المعنى الأول كان يعده أصحاب الذوق الشعري قد صنع شيئاً أو أتى بجديدة؟ ولا يفوتنا في هذا الفصل التنبيه على وفرة هذه المعاني الشعرية الساحرة، وقوة الجمال الفني الرائع في شعر الرافعي، فانك تحس بذلك الجمال في كل بيت من ابياته، بل في كل من نثره، بل فيه هو إذا جلست إليه وتحدث اليك، فهو شعر كله؛ وإنما انسب الغموض المتوهم في بعض أبياته إلى قصور ذهن المتوسطين من القراء، والى ضيق الألفاظ المحدودة، عن أن تحصر هذا الجمال المعنوي الذي لا يحد؛ إلا إنني أرى أن معانيه من صنعة الفكر وابتكار الذهن، لا من وحي العاطفة وإملاء الإحساس. واليك بعضاً من شعره ليتبين لك صحة ما ذهبت إليه؛ قال يصف بائسة حسناء أفقرتها الحرب:
طريدة بؤس ملّ من بؤسها الصبرُ ... وطالت على الغبراء أيامها الغُبر
وكانت كما شاءت وشاء جمالها ... كما اشتهت العليا كما وصف الشعر
تلألأ في صدر المكارم دُرَّةً ... يحيط بها من عِقد أنسابها درّ
وما برحت ترقى السنين وتعتلى ... وكل المعالي في طفولتها حِجْر
فكانت كَزهر نَضرّ الفجرُ حسَنه ... ولما علت كالنجم أطفأها الفجر
تقاسمت الحسْن الإلهي واُنثنى ... يقاسمها، فالأمر بينهما أمر
فللشمس منها طلعة الحسن مُشرقاً ... وفيها من الشمس التوقد والجمر
وللزَّهر منها نفحةُ الحسن عاطرا ... وفيها ذُبولٌ مثلَما ذبلَ الزهر