للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وفارقها، وعاش بلا أسرة. ولكن هل كانت حنه سعيدة بهذه الحرية؟ كلا فقد شعرت هي الأخرى باثمها؛ وسرعان ما دب الفتور إلى حبيبها، وأضحت تشعر أنها غدت عبئا ثقيلا عليه، وهكذا حطمت حياتها. وأما العاشق (فرونسكي) فقد كان فتى جم العبث والأهواء، وكان يهوى حنه هوى الفورة والساعة؛ ولكنه شعر أنه أثم أيضا وأن إثمه يوجب عليه أن يبقى إلى جانب تلك التي حطم حياتها ففر معها إلى الخارج وقضى بذلك على مستقبل زاهر كان في انتظاره، ثم كانت خاتمة المأساة ذات يوم في حلبة السباق إذ سقط المحب القديم من فوق ظهر جواد كان يمتطيه فقتل لساعته.

تلك هي الفلسفة الإنسانية الرائعة التي يبسطها لنا تولستوي في أعظم كتبه. وفي سنة ١٨٨٠ نشر تولستوي كتابه (اعترافي) وفيه يبسط لنا آراءه ونظرياته الدينية. وفي هذا الميدان كما في غيره يبدو تولستوي في صور مختلفة متناقضة، فبينا نراه الرجل المؤمن العريق في الإيمان إذا بنا نراه ملحدا منكرا، وإذا بنا نراه وثنيا وطائفيا. وكتب تولستوي بعد ذلك كتب عدة ورسائل أخرى يغلب عليها طابع التصوف، منها (ايفان ايليتش) و (الكورتيس سوناتا) و (مملكة الله في قلبك) و (ما هو الدين). وساح تولستوي في ألمانيا وسويسرا وغيرهما وكتب صور سياحته في كتابين: أحدهما يسمى (لوسره) ولآخر (مذكرات نخليودو) وغدا تولستوي في كهولته فيلسوفا ومصلحا اجتماعيا يحرر عبيد ضيعته، ويقسم أرضه بين الفلاحين ويعنى بتربيتهم وإرشادهم، ويغيث البؤساء والمنكوبين؛ ومن أثر ذلك أنه نزل عن أملاكه لزوجه وأولاده، وحاول أن يعيش عيشة الزهد والتقشف مثل ما يعيش أفقر أبناء الريف. وكان ذلك سببا في تنغيص حياته العائلية، وفي تسميم علائقه بزوجته. ولما شعر في أواخر حياته أنه غدا بين أسرته كالغريب المنبوذ، فر من منزله سرا. وكان قد تبوأ ذروة مجده منذ أعوام طويلة وغدا يكنفه نوع من القداسة، وكان قد أشرف على نهاية حياته الحافلة فتوفي بعد ذلك بقليل في بلدة استابوفو في ٢٠ نوفمبر سنة ١٩١٠، واختفت بذلك شخصية من أعظم شخصيات الأدب الحديث

وكان تولستوي شاعرا وفيلسوفا وناقدا وفنانا، وكانت حياته كلها حياة كفاح واضطراب، ولكنها متناقضات مدهشة؛ فمن أرستقراطية عريقة، إلى ديمقراطية ساذجة؛ ومن إيمان مؤثر إلى الحاد مطبق؛ ومن شغف بالنساء إلى احتقار لهن؛ ومن إنسانية فياضة إلى انانية

<<  <  ج:
ص:  >  >>